قبل أيام قليلة، اجتمعنا مجموعة من الأصدقاء في حديث ودي جمع بين السياسة والاقتصاد وشؤون الوطن، وكان بيننا صديق يعمل في مجال النفط والطاقة، وهو من الأشخاص الذين أقدر خبرتهم وحرصهم على مصلحة الوطن.
دار بيننا نقاش طويل وصريح عن أزمة المياه في العراق وعن الأسباب التي جعلت نهري دجلة والفرات اللذين كانا يوما رمزا للحياة، يتحولان إلى مجريين يهددهما الجفاف.
تحدثنا عن السدود التركية والإيرانية، وعن سياسات دول المنبع التي تقلص حصة العراق المائية، لكن وسط هذا الحديث، توقف صديقي عند نقطة جوهرية كنت غافلة عنها، فقررت أن أبحث أكثر
لا أخفيكم أن رحلة البحث هذه عرفتني إلى مفردات جديدة ومعلومات قيمة أغنتني كصحفية وجعلتني أنظر إلى هذا الموضوع بعين مختلفة. فقد اكتشفت أن جزءا كبيرا من الأزمة ليس مصدره الخارج، بل هو من صنع أيدينا نحن، أوضح لي كيف تهدر الحكومة العراقية ملايين الأمتار المكعبة من مياه دجلة والفرات يوميا في عمليات استخراج النفط وكيف فشل المفاوض العراقي في إلزام الشركات الأجنبية باستخدام مياه البحر بدلا من المياه العذبة في حقن الحقول النفطية.
كانت تلك لحظة وعي حقيقية بالنسبة لي، إذ أدركت أن المشكلة لم تكن في تركيا وحدها، بل في إدارتنا نحن لثرواتنا ومياهنا.
ومن هنا ولدت فكرة هذا المقال، لا للاتهام، ولا للتبرير، بل لوضع الحقيقة أمام الناس كما هي، حتى يفهم القارئ أن الكارثة المائية التي نعيشها اليوم ليست سوى نتيجة لسلسلة من الإهمال وسوء الإدارة والفساد وأننا إذا أردنا إنقاذ العراق فعلينا أن نبدأ أولا بمواجهة أنفسنا قبل أن نواجه الآخرين.
نهرا دجلة والفرات.. شريان العراق الذي يختنق
يشهد العراق منذ أكثر من عقدين أزمة مائية متفاقمة انعكست في انخفاض منسوب النهرين إلى أدنى مستوى منذ ثمانين عاما. المياه التي كانت تغمر السهول وتروي المزارع باتت اليوم بالكاد تصل إلى المحافظات الجنوبية، في وقت تتزايد فيه معدلات الجفاف والملوحة ويتراجع الإنتاج الزراعي بوتيرة مقلقة، تتذرع الحكومات العراقية المتعاقبة بأن السبب هو سياسات تركيا وسوريا وإيران المائية، وأن السدود المقامة في أعالي الفرات ودجلة هي التي حجبت المياه عن العراق لكن الصورة ليست بهذه البساطة لأن الخطأ الأكبر يكمن في طريقة تعاملنا نحن مع مواردنا المائية.
الماء والنفط… العلاقة التي لم ترو للناس
في جنوب العراق حيث تتمركز معظم الحقول النفطية الكبرى مثل الرميلة والزبير ومجنون، تستخدم كميات هائلة من المياه في عمليات استخراج النفط الخام.
تعرف هذه التقنية باسم “الحقن بالمياه”، وهي ضرورية للمحافظة على ضغط المكامن ودفع النفط إلى السطح.
غير أن الكارثة تكمن في أن الحكومة العراقية، ومنذ سنوات طويلة، سمحت باستخدام مياه نهري دجلة والفرات في هذه العمليات، بدلا من مياه البحر أو المياه المالحة المعالجة.
تقدر الحاجة اليومية لهذه الحقول بما يتراوح بين 4 إلى 8 ملايين برميل من الماء يوميا أي ما يعادل أكثر من مليوني متر مكعب من المياه العذبة، تسحب من منابع كان يفترض أن تروي الزراعة والناس.
الشركات الأجنبية ليست المذنبة… بل من سمح لها
المفاوض العراقي سواء في وزارة النفط أو الموارد المائية أهمل نقطة حيوية عند التعاقد مع الشركات الأجنبية العاملة في استخراج النفط، لم يطلب منها استخدام مياه البحر في عمليات الحقن، رغم أن هذا الخيار كان متاحا ومطروحا منذ أكثر من عقد ضمن مشروع “ماء البحر الجنوبي، لو أن الحكومة فرضت هذا الشرط، لكانت الشركات التزمت به دون اعتراض، فهي لا تتحرك إلا وفق ما تسمح به العقود.
لكن غياب التخطيط والرؤية جعل الشركات تواصل سحب المياه من الأنهار دون اكتراث بالعواقب البيئية والاجتماعية.
وبذلك، فإن الخلل ليس في الشركات الأجنبية، بل في المفاوض العراقي الذي لم يضع مصلحة الوطن فوق المصالح السريعة أو الحسابات الضيقة.
تركيا تمتلك الآن حجة قوية.. لأننا قدمناها لها
حين تشتكي بغداد من قلة المياه، ترد أنقرة بهدوء قائلة: أنتم تستخدمون مياه دجلة والفرات لا للشرب ولا للزراعة، بل لاستخراج النفط وتلوثونها بالصرف الصناعي، فكيف نلام نحن؟
ورغم أن هذا التبرير لا يعفي تركيا من مسؤوليتها عن بناء السدود وتقليل الحصص المائية، إلا أنه أصبح ذريعة قوية تستخدمها في المحافل الدولية بعدما قدمناها نحن على طبق من ذهب.
الإخفاق الحكومي المتراكم
الحكومات العراقية المتعاقبة فشلت في التعامل مع ملف المياه لعدة أسباب جوهرية منها:
1- ضعف الإدارة المائية وغياب التنسيق بين الوزارات المعنية
2- تآكل البنى التحتية للري، والسدود وغياب الصيانة والتحديث
3- الفساد الإداري والمالي الذي عطل مشاريع إنقاذ حيوية مثل مشروع ماء البحر
4- تجاهل الحلول العلمية والاكتفاء بتصريحات سياسية لتبرير الفشل
5- عجز الدبلوماسية العراقية عن فرض اتفاقيات مائية عادلة مع دول الجوار
النتيجة: شح متفاقم ووعي غائب
اليوم، يدفع الفلاح والمواطن العراقي ثمن هذا الإهمال.
الأنهار تجف، الملوحة تزحف نحو الشمال، والمزارع تترك أرضها لتبحث عن عمل في المدن.
الخطر الأكبر هو استمرار الغفلة: أن نحمل الآخرين المسؤولية ونرفض الاعتراف بأننا شاركنا في صناعة الأزمة.
رسالة إلى الشعب العراقي
إذا كنا صادقين في حبنا لوطننا، فعلينا أن نضع مصلحة العراق فوق كل انتماء سياسي أو حزبي، إن إصلاح ملف المياه لا يبدأ من تركيا أو إيران، بل من صندوق الاقتراع، من اختيار الكفاءات الوطنية القادرة على التخطيط والتنفيذ والمساءلة.
الحقيقة مرة.. لكنها بداية الشفاء
ما بين دجلة والفرات كتبت أولى صفحات التاريخ الإنساني، ومن أرض الرافدين خرجت أولى الحضارات التي علمت العالم معنى الزراعة والحياة، فهل يعقل أن نجعل هذه الأرض التي كانت مهد الخصب والنماء، ساحة للعطش والجفاف؟
ربما كانت البداية مجرد ملاحظة من صديقي، لكنها قادتني إلى رحلة من البحث والتعلم، واليوم أجدني ممتنة لكل لحظة توقفت فيها لأتعلم، ولكل فكرة جعلتني أرى الأشياء من زاوية مختلفة، فهذه هي متعة الصحافة الحقيقية: أن نتعلم قبل أن نكتب، ونفهم قبل أن ننقل.
التعليقات (3)
شح المياه في المحافظات الوسط التي لا يوجد بها حقول النفط كيف تفسر؟
شح المياه في المحافظات الوسط التي لا يوجد بها حقول النفط كيف تفسر؟ والموصل و السدود الشمال و الانبار.
جميع المحافظات تمرر فيها مياه دجله والفرات