تقدم المتغيرات الاقتصادية دلالات محددة تؤشر واقع حال النشاط الاقتصادي القائم، وقراءة تلك المتغيرات تكون باتجاهين، الأول ذو طابع ساكن موحد يفسر عبر النظرية الاقتصادية، فيكون التفسير باتجاه متماثل بغض النظر عن المتغيرات الأخرى المؤثرة بذلك المتغير، اما الثاني فهو اتجاه ديناميكي يقدم بفرشة واسعة تأخذ بنظر الاعتبار المتغيرات الأخرى لتقدم صورة من الممكن عبرها ان نصل الى تحديد طبيعة النشاط الاقتصادي القائم من جوانب متعددة فتطلق الاحكام بان ذلك النشاط متطور او متخلف او نامي وغيرها من النعوت المستخدم في الادبيات التنموية.
فلو قلنا ان سعر الفائدة متجه نحو الارتفاع، فعند الاتجاه الأول سالف الذكر، يمكن القول ان هذا النمو في سعر الفائدة سيقود الى ارتفاع تكاليف الاستثمار في النشاط الاقتصادي، مما يعني انخفاض معدلات الاستثمار بسبب انخفاض عوائد الاستثمار المتوقعة، وهذا سيقود بالنتيجة الى انخفاض في معدلات النمو الاقتصادي بشكل عام في الاقتصاد. وهذا التحليل هو موحد اقرته النظرية الاقتصادية. لكن اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار المتغيرات الأخرى المؤثرة على الاستثمار وفقا للاتجاه الثاني، فقد تؤثر التوقعات المتفائلة لرجال الاعمال والشركات على التعامل مع هذا الارتفاع في سعر الفائدة كون الطلب الكلي المرتفع سيقود الى ارتفاع الأسعار مما يعني تحقيق عوائد كبيرة تغطي التكاليف، او قد لا يكون لسعر الفائدة تأثير كبير على مجريات الاستثمار بسبب ظروف امنية وما شاكل ذلك، مما يعني ان الارتفاع في سعر الفائدة او الانخفاض لا يؤثر على الطلب الاستثماري، أي لا توجد علاقة قوية مفسرة لسعر الفائدة والاستثمار.
الدين العام، وهو من المتغيرات المهمة اقتصاديا، تجري عليه ذات القواعد المذكورة في ما تقدم، فنموه بشكل عام يؤشر على وجود التزامات تثقل كاهل الموازنة العامة لما يترب عليه من خدمات وشروط التزام مفروضة على الحكومة، لكن التحليل الموسع الديناميكي يقدم لنا صورة مفصلة تعطي دلالات لكل اقتصاد، تبعا للظروف والمتغيرات المتحكمة.
لابد من تسليط الضوء بشكل مختصر على هذا المتغير عبر نظرة تاريخية، اذ اكدت المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية على ان الدين العام امر مرفوض اقتصاديا، كون الدور المفترض للحكومات في الاقتصاد ينبغي ان يكون محدود وبعيد عن كل اشكال التدخل الاقتصادي المؤثر على مجريات النشاط الاقتصادي، لتأتي المدرسة الكينزية وتقدم تحليل اخر مختلف للدين العام، اذ اقرت هذه المدرسة بوجوب ان يكون هناك دور تدخلي للحكومات قوي ومؤثر في النشاط الاقتصادي عند حدوث اختلال في التوازن الكلي، أي في حالة قصور الطلب الكلي عن مواكبة العرض الكلي وحدوث الركود الذي يقود الى الكساد، فعندها يعمل الانفاق العام دور في رفع الطلب الكلي كونه احد اهم مكوناته ليجاري العرض الكلي، وهنا لا ترى هذه المدرسة أي مشكلة في إيجاد عجز في الموازنة العامة، وهذا جوهر الخلاف بين المدرستين.
تظهر المؤشرات الدولية ان الدول الفاعلة اقتصاديا لديها عجز مالي في موازناتها، وتحقق نمو كبير نسبيا في حجم الدين العام لديها، ويظهر الجدول القادم حجم الدين لبعض الدول.
يظهر الجدول لهذه الدول الكبيرة اقتصاديا، الحجم الكبير نسبيا للدين العام فيها، والمرافق لاداء اقتصادي عالي المستوى، فهذه الدول هي من تهيمن على الجزء الأكبر من التجارة العالمية وتحقق معدلات نمو عالية المستوى وهي الأقل نسبيا بمعدلات البطالة والأكثر تنوعا وتمتاز بكونها ذات مستوى تطور تكنلوجي كبير جدا وغيرها من المؤشرات الاقتصادية، مما يعني ان لا اثر سلبي لتلك الديون.
وبالعودة الى الفكر الكينزي، فان التحليل الاقتصادي لهذه الحالة يمكن ان نقول به ان الأثر لتلك الديون هو اثر توسعي نتيجة لتطبيق (القاعدة الذهبية) للدين، أي ان العوائد الاقتصادية المتحققة تفوق خدمات الدين بمعنى ان هناك جدوى اقتصادية لتلك الديون.
اما في الدول المتخلفة، فالقضية معكوسة، كون الدين العام يشكل عبء كبير على الاقتصاد، ويرفع من مستوى الالتزامات المثقلة لكاهل الموازنات العامة في تلك الدول، ويهدد الاستدامة في الدين، أي هناك مخاطر حقيقية في قدرة الحكومات على الإيفاء بالتزامات سداد الديون والخدمات المترتبة عليها، ناهيك عن الاثار الجانبية الأخرى المتمثلة بمزاحمة القطاع الخاص كون تلك الديون ترفع من سعر الفائدة ومن ثم انخفاض الانفاق الاستثماري، كذلك انعكاسها على ارتفاع معدلات التضخم وغيرها.
وهنا يبين لنا التحليل الديناميكي الشامل الفرق بين الدول وفقا لمستوى التقدم الاقتصادي، فليس كل الديون هي ذات اثر واحد على النشاطات الاقتصادية القائمة.
في العراق الذي يعاني من الارتفاع المستمر في حجم الدين العام الذي وصل في الآونة الأخيرة الى مستوى غير مسبوق متمثل بمقدار (91) ترليون دينار موزعة بين البنك المركزي والمصارف على المستوى الداخلي وبحدود (52) مليار دولار خارجيا، في ظل ارتفاع في مستوى الانفاق التشغيلي على حساب الانفاق الاستثماري مما يعني ضعف شديد في الأثر التوسعي الإيجابي، مع ضعف شديد في استدامة الدين مع مخاطر حقيقية على معدلات التضخم نتيجة للاعتماد الكبير على البنك المركزي في تمويل العجز في الموازنة.
وبناءً على ما تقدم، هناك مغالطة كبيرة تسوق في الخطاب السياسي العراقي تتمثل بتسويق الدين العام في العراق على انه حالة طبيعية وتقارن ديون العراق بديون الدول المتقدمة اقتصاديا، وهذا امر غير صحيح اقتصاديا فالدين في العراق له اثار انكماشية بينما في الدول المتقدمة اثره توسعي داعم للنمو الاقتصادي.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!