ابحث في الموقع

لبّة الرگي.. حكاية صيف عراقي

لبّة الرگي.. حكاية صيف عراقي
لبّة الرگي.. حكاية صيف عراقي

بقلم: محمد علي الحيدري

أن تُنهي مساءك بلبّة رگي باردة، فذلك في العراق ليس مجرد عادة، بل طقس من طقوس الحياة اليومية، طقس يُطفئ حرّ النهار ويُبرّد الجسد المتعب من صيف طويل لا يرحم. فالعراقيون لا يأكلون الرگي كما يأكله الآخرون، بل يعيشونه. بينهما علاقة محبة وامتنان، كأن الرگي جزء من صيفهم الذي لا يكتمل من دونه.
 
في طفولتنا، كان الرگي رفيق النهار، وصوت "الچطلات" فيه يعلن عن لحظة الفرح. كنا ننتظره بفارغ الصبر، نأكله أكثر من مرة خلال اليوم، من دون أن يملّ أحد أو يعترض. كان متاحاً لنا تماماً، إلى أن يحلّ المساء. عندها كانت القاعدة الذهبية التي لا نقاش فيها: “ماكو رگي للجهال بعد العشاء!” والسبب كما تقول الأمهات بابتسامة فيها حزم وحنان: “حتى لا تتعرقون بالليل”، في إشارة للتبول الليلي غير المنضبط.
 
ذلك المنع المسائي كان بالنسبة لنا قيداً مؤلماً، وقمعاً مبطّناً في زمن كانت كل متع الطفولة صغيرة وبسيطة. كنا نراقب الكبار وهم يلتهمون لبب الرگي بمتعة واضحة، نتأمل لمعان العصير الأحمر على وجوههم ونبتلع ريقنا، ننتظر أن تلتفت أمّ أو جدّة لتمنحنا قطعة صغيرة، لكنها غالباً ما كانت تؤجل الوعد إلى صباح الغد.
 
وكان الصباح، كما نتذكره، موعداً للفرح الحقيقي. ما إن نفتح أعيننا حتى نهتف:
“نريد رگي!”
 
فنهرع إلى المطبخ أو الفناء، حيث تنتظرنا "شيف" الرگي المملوءة بشرائحه الباردة. هناك نستعيد حقنا المؤجل، نأكل حتى نرتوي، وأحياناً تكون المائدة أكثر غنى حين تُقدَّم إلى جانبه قطعة جبن ولقيمات خبز طازج، في مزيج بسيط لكنه عجيب في لذّته.
لم يكن الرگي مجرد فاكهة في صيف الطفولة، بل كان مظهراً من مظاهر الفرح الشعبي، ورمزاً لبراءة الأيام التي كانت تُدار بصدق وبساطة. واليوم، كلما ذقتُ لبّة رگي باردة، أشعر أنني أعود إلى تلك الليالي القديمة، وأسمع أمي تهمس من بعيد، بنبرة تجمع الجد بالحنان:
“ماكو رگي بالليل.. حتى لا تعرگ!”
المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي كاتبها
التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!