بقلم: علي مبارك
خلال هذه الأيام، ومع اعتراض الولايات المتحدة الأمريكية على قانون الخدمة والتقاعد لقوات الحشد الشعبي، بدأت تتعالى أصوات تدعو لتحدي واشنطن وتمرير القانون رغم رفضها، بل وصل الحال إلى طرح خطاب يقول إن العراق قادر على بيع النفط في السوق السوداء في حال فرض واشنطن حصار اقتصادي عليه.
لكن الحقيقة أن غياب القرار العراقي الموحد يجعل من العراق دولة ضعيفة، غير قادرة على فرض إرادتها في القضايا المصيرية. ورغم هذا الضعف في القرار، تتعالى أصوات تحاول تصدير صورة أن العراق قادر على المواجهة وامتلاك قراره السيادي، بينما الواقع يعكس هشاشة داخلية وعدم وضوح رؤية.
تصدير مثل هذا النوع من الخطاب، من أجل إيهام المجتمع بقوة العراق وقدرته على المواجهة وامتلاك القرار، هو خطاب أدنى مستوى حتى من الشعبوية، لأنه يهدف للاستغلال الانتخابي أكثر مما يعبّر عن واقع سياسي. فأمريكا، ولمن لا يعلم، هي من تملك زعامة العالم، وحتى زعماء أوروبا والدول الكبرى يذهبون إلى واشنطن من أجل التفاهم والتفاوض والتنازل. الكل يسعى إلى كسب ودّ أمريكا، حتى خصومها مثل إيران وروسيا، لتجنب العقوبات الأمريكية، لأنها ببساطة عقوبات دولية عالمية وليست مجرد إجراءات أمريكية.
من يحكم العالم اليوم الدول العظمى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تمتلك مفاتيح السياسة والاقتصاد والامن على مستوى العالم ويمكن توضيح الهيمنة الامريكية من خلال ثلاث محاور رئيسية: –
المحور الأول: مجلس الامن واحتكار القرار الدولي
منذ تأسيس الأمم المتحدة، بقي مجلس الأمن هو الأداة الأبرز للتحكم بمصائر الدول. ومع امتلاك أمريكا حق النقض (الفيتو)، تحوّلت الكثير من القضايا إلى رهينة الموقف الأمريكي ودول مجلس الامن. العراق عاش هذه التجربة بمرارة، ابتداءً من قرارات الحصار في تسعينيات القرن الماضي وصولاً إلى قرارات الاحتلال وما تلاها. هنا يدرك العراقي أن القرار الدولي ليس محايدًا، بل يخضع لمعادلات القوة التي تملك واشنطن مصيب الأسد منها.
المحور الثاني: القوة العسكرية كذراع ضاغطة
الوجود العسكري الأمريكي يشكل وجهًا آخر للهيمنة. فواشنطن تمتلك مئات القواعد حول العالم، قادرة على التدخل السريع في أي نزاع. العراق مثال فمنذ 2003 وحتى اليوم لم يغب الحضور العسكري الأمريكي عن المشهد، سواء عبر الاحتلال المباشر أو اتفاقية الإطار الاستراتيجي او عبر التدريب والدعم الفني للقوات العراقية بعد معركة داعش. هذه الحقيقة جعلت السيادة العراقية دائمًا مرهونة بموازين القوة، لا بموازين الإرادة الوطنية فقط.
المحور الثالث: الاقتصاد والدولار كأدوات تحكم
القوة الاقتصادية الأمريكية لا تقل خطورة عن السياسة والسلاح. فالدولار هو العملة الأولى في العالم، والتحكم الأمريكي بالنظام المصرفي يمنحها أداة ضغط فعّالة. العراق يدرك ذلك جيدًا، إذ يعيش منذ سنوات أزمة التحولات المالية بسبب قيود البنك الفدرالي الأمريكي على بيع الدولار، الأمر الذي انعكس على الأسواق والاقتصاد المحلي. كما أن اعتماد العراق شبه الكامل على النفط المصدّر بالدولار يجعله أسيرًا للاقتصاد الأمريكي.
الخاتمة: العراق بحاجة إلى رؤية لا ردود فعل
أمام هذه الحقائق، يبقى التحدي الأكبر: أين هي الرؤية العراقية؟ إن غياب القرار الوطني الموحد يجعل البلاد في موقع الضعف، ويترك الساحة مفتوحة أمام القوى الخارجية لتفرض رؤاها ومصالحها. الرؤية المطلوبة يجب أن تقوم على سياسة خارجية متوازنة، وإصلاح اقتصادي يقلل من التبعية، وتفعيل الدبلوماسية لبناء تحالفات تحفظ مصالح العراق وتعيد له ثقله الإقليمي.
ولعل الدرس الأوضح يأتي من الحصار بعد غزو الكويت: فالعراق، رغم كونه حينها دولة بوليسية بقرار مركزي موحد، لم يستطيع الصمود أمام العقوبات الدولية، ودفع المجتمع ثمنًا باهظًا من اقتصاد ومعيشته واستقراره. وإذا كان ذلك قد حدث في ظل وحدة القرار، فكيف سيكون الحال اليوم في ظل غياب الرؤية الموحدة وتشتت المواقف؟
فالعراق إن لم يصنع رؤيته بنفسه، فستُصنع له رؤى الآخرين، وفق مقاسات مصالحهم لا مصالحة.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!