ابحث في الموقع

حين قال "لا".. وُلِدت أمة

حين قال "لا".. وُلِدت أمة
حين قال "لا".. وُلِدت أمة

بقلم: كريم محسن

ماذا لو قال “نعم” ونجا بدمه؟ هل كان للجمال معنى؟ هل بقي للحق مكان؟ لكنه قال “لا”… فصنع للكرامة وجهًا، وللجمال سببًا، وللحق خلودًا. الله دُرك يا حسين، كم من العظمة بلغت!

ليس من السهل أن تقف في وجه جيش، وسيفك محني، وأطفالك خلف ظهرك، وتاريخ الأمة يرتجف على كتفيك، ثم تقول: “لا”.

فـ”لا” الحسين لم تكن اعتراضًا سياسيًا، ولا موقفًا قبليًا، ولا نزوة سلطة، بل كانت إعلانًا أخيرًا أن الإنسان، إذا لم يملك شرف الرفض، لا يستحق أن يُسمى إنسانًا.

عندما نقف على أطلال التاريخ، نجد آلاف المعارك، وآلاف القتلى، لكن وحدها كربلاء تشعّ من بين رماد الحروب بمعنى مختلف، لأنها كانت حربًا بين الكرامة والذل، بين الروح والرمح، بين المبادئ والخنوع. لم يُهزم الحسين لأنه قُتل، ولم ينتصر خصومه لأنهم نجوا، بل انقلبت كل موازين النصر والهزيمة. وهكذا فقط، دخلت كربلاء في جوهر كل ضمير حي، مسلمًا كان أو غير مسلم، لأنها حدثت داخل النفس البشرية أكثر مما حدثت في الصحراء.

السؤال الجوهري: لماذا لا يزال الحسين يُذكر بعد أربعة عشر قرنًا، ويُبكى عليه كأنه قُتل البارحة؟ الجواب ليس في الواقعة نفسها، بل في مدلولها العميق. لقد أعطى الحسين لمعنى “الكرامة” بُعدًا جديدًا: كرامة الدم في مواجهة كرامة العيش. أيهما تختار؟ الحياة تحت ظل الجور أم الموت في ظل موقف؟ ولأن الحسين اختار الثانية، أصبح موته ميلادًا جديدًا لأمة لم تكن تعرف أنها وُجدت إلا عندما نطقت بـ”لا”.

في عراق اليوم، حيث تتشابك الخيبات وتنهال الصفعات على الكرامة اليومية، يُعاد طرح السؤال القديم: أين الحسين من هذا الواقع؟ أين صوته من فساد السياسة، ومن خنوع المجتمع، ومن قهر الفقراء؟ هل يُعقل أن يُرفَع اسمه في المواكب، وتُنسى رسالته في المؤسسات؟ أن نغرق في تفاصيل الطقوس وننسى جوهر الحسين: الكلمة حين تكون قاطعة، والموقف حين يكون ثمنه الدم.

كم من مسؤول اليوم لو خُيّر بين “نعم” تُنجيه و”لا” تُعاقبه، لاختار الأولى بلا تردّد. وكم من سياسي نطق بـ”نعم” وهو يعلم أنها تخون ضميره، فقط ليبقى في منصبه أو ليكسب تحالفًا. وهنا، تتجلى لنا أهمية أن نستذكر “لا” الحسين ليس كعبارة، بل كمنهج.

“لا” التي قالها الحسين لم تكن فقط رفضًا ليزيد، بل كانت رفضًا لكل ما يشبه يزيد في الزمان والمكان. في كل فاسد، في كل مستبد، في كل مَن يبيع ضميره بحفنة دراهم أو بكرسي زائل. فهل نقول “لا” اليوم بنفس النقاء؟ أم أننا ورثنا المظلومية ونسينا البطولة؟

إننا نحتاج الحسين اليوم أكثر من أي وقت مضى، لا لنبكيه، بل لنحيا به. أن نعيد قراءة “لا” كمرآة نواجه بها خيبتنا وخنوعنا وترددنا. أن نُربّي أبناءنا على أن الكرامة لا تشترى، والموقف لا يُباع، والحق لا يُقايض.

فالله دُرك يا أبا عبد الله، كم من العظمة بلغت حين اخترت الشهادة طريقًا، والحق رفيقًا، والكرامة ميثاقًا. سلام عليك يوم ولدت، ويوم استشهدت، ويوم تُبعث حيًّا في ضمائرنا.

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!