ابحث في الموقع

الحسين والحياة

الحسين والحياة
الحسين والحياة

بقلم: منى الصالح

حركة الوعي حركة تراكمية متصاعدة، ثقيلة فنحن نحمل على أكتافنا تجربة البشرية جمعاء، نفكر بعقول ملايين البشر الذين سبقونا، ونعتلي بفهمنا وإدراكنا للواقع على ماوصلوا إليه، وهذا ما يوسع أفقنا، ونقرأ الصورة بشكل مختلف لم يتوصلوا إليه أو لم تتح لهم أدوات عصرهم ما أتاحت لنا، فنحن أبناء اليوم والعالم أمامنا قرية صغيرة، الكون كله بما فيه من قدرات معجزة، وأدوات جديدة ساعدتنا على فهم الحياة، ومتطلباتها الاجتماعية والنفسية والسياسية والاقتصادية، وحركة التاريخ ليست بمنائ عن هذا الفهم، ففهمنا لسنن التاريخ وحركة الحضارة وتطور الأمم أتسع وبرزت مفاهيم جديدة نحتاج أن ناخذها بعين الاعتبار.

ونحن نقرأ الحسين (عليه السلام) وهو يقول “إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي..” الإصلاح يعني الحياة، يعني تصحيح مسارات قد انحرفت عن الطريق بسبب تقادم الزمن والعديد من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، هذه الحركة حية عبر الزمان والمكان وحياتها بالاصلاح الذي هو حركة مستمرة متصاعدة في نضج التجربة البشرية، وإذا وقفنا عند فهم أسلافنا عند الإصلاح السياسي والمواجهة العسكرية، فقد توقفنا وأوقفنا الحياة عند فهمهم، وحتما سيسحقنا التاريخ الذي حركته لاتتوقف، وقد يكون هذا مفهوم الصنمية الذي أشار له القرآن الكريم في الكثير من آياته، فالصنم لايقتصر على حجر يعبد، بل قد يكون فكرة أو شخص أو مكان أو حتى حركة إصلاحية ونهضوية، لذا لابد أن ننتبه ألا نقع بالفخ من حيث لانعلم.

اليوم وأنا استمع لخطيبة يحضر لها المئات من النساء في إحدى مجالس لندن، وتوصلت إلى أن لافرق بين لندن وأبعد قرية أفريقية أو آسيوية، حين نسدل الستارة ونمنع النور من أن يزيح الظلام، كانت تشير أثناء حديثها عن وترية الحسين (عليه السلام)، حيث لامثيل له وبأنه سيد الشهداء لأن ماقام به الحسين (عليه السلام) هو الأصل وليس الاستثناء كما يدعي الكثير، وأوضحت رداً على من يقول أننا اليوم نكون مثل بقية الأئمة (عليهم السلام) علماء ونفتح المراكز والحوزات، وأن حركة الحسين (عليه السلام) واللجوء للسيف لتقويم الأمر هو الأصل وليس الاستثناء وبقية الأدوار لجميع الأئمة (عليهم السلام) هي تقية وفرع واستثناء من أصل عمل الحسين (عليه السلام).

استوقفني هذا المفهوم الذي هو حتماً دون قصد مع ثقتي من نية الخطيبة إلى التوقف كثيراً، أليس في هذا دعوة إلى ان الحياة لاتستقيم إلا بالسيف والقوة؟!، ألا تستبطن دون وعي دعوة إلى العنف لمن يسيء استخدامه؟!، ومن ثم ألا نعطي انطباع أن الحياة كلها حروب وقتال بما أنها الأصل وباقي الأدوار فروع، بينما نظرة دقيقة لطبيعة الحياة ومسيرة التاريخ، أن مثل هذه الثورات والتغييرات هي منعطفات مفصلية في التاريخ تستدعيها طبيعة المرحلة، وحقا انها مؤثرة وقد يتجاوز أثرها الزمان والمكان وتلعب دوراً في تصحيح أوضاع الأمم، إلا أنها تبقى الاستثناء الذي تحتاجه.

هل نختصر الحياة بكل تفاصيلها الصغيرة بمصداق واحد للقوة، أتقبلها من أسلافنا الذين كان معيار القوة، هي قوة السيف، ولكن كيف نوضحها للأجيال التي عرفت ألوانا لاحصر لها للقوة، وأن المتحكم الآن بمسيرة البشرية ومصائرها القوة الاقتصاية، وتلعب القوة النفسية الدور الأهم في بناء شخصية الفرد ومن ثم بناء المجتمعات المتحضرة.

ألا نعطي بهذا المفهوم انطباعاً بأن الحسين (عليه السلام) داعية موت، ومن يحبه ويسير على نهجه لابد أن يعد العدة للقتال والموت في سبيله.

أليس هذا ضد الطبيعة البشرية التي تنشد الحياة، وتبحث عمن يقوي فيها منابعها النابضة، ويساعد على استقرارها وسلامتها وسكينتها، أليس السلام والأمان هو المطلب الأول للإنسان، ولأجله أقرت القوانين والأسس التي تحافظ على حقه الطبيعي بالحياة.

كيف نرسم صورة للحسين ضد الطبيعة البشرية ونقول إن الحسين (عليه السلام) قدم أصحابه وأولاده للموت، بل حتى طفله الرضيع، أي صورة تلك التي نرسمها بمخيلة أطفالنا ونحن نروي لهم قصص كربلاء غير الدماء والسيوف والقتل.

أنا أرى الحسين (عليه السلام) في كل مسيرته القائد الواعي، العارف كيف يحافظ على أصحابه وأهل بيته وألا يعرضهم للقتل، كان حرا ومحبا للحياة، لم يكن الإصلاح دعوة للقتل بل دعوة للحياة الكريمة وأن استدعت التضحيات فنحن لها، فكم من حي يعيش في هذه الدنيا وهو ميت ليس له منها سوى الأكل والشرب، الحسين (عليه السلام) دافع عن الحياة واستقامتها، أن يكون الانسان حرا يمتلك كل حقوقه، لذلك خرج من مكة حفظا على الانسان والمكان، حاول بكل ما امتلك من وسائل أن يجنب الأمة حرب نتائجها وخيمة على البشرية جمعاء، دون أن تفقد حريتها وتتنازل عن كرامتها، فيخاطب أصحابة ليلة العاشر “وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً”، وأثبت لآخر لحظة أنه يكره البدء، خروجه بالطفل الرضيع هو طلبا للحياة، فقد كان معرضا للموت عطشا فخرج به، الحياة كلها مقابل التوحش والقتل كله، طالبا له الماء والماء رمز الحياة.

خرج الحسين (عليه السلام) حتى لاتسرق من الطفل ضحكته وطفولته، خرج حتى لايغتال من الشاب حماسه وزهوه وعنفوان سماته، فكان القاسم كله ضد اللؤم كله، قام حتى يبقى للمنزل سقفا فيه الأمان فلا يستباح الحب والحنان الأبوي فكان علي الاحسان كله ضد العقوق كله، وكيف يكون للحياة طعم ومذاق حتى تفرغ الأخوة من أسمى معانيها فإذا العباس (عليه السلام) يرفع كفّاً ملئ بالماء ليكون الإيثار كله بوجه الطغيان.

هل رأيتم رجلا يطلب الموت وقلبه يضج بالمشاعر والعواطف لجون كما هو للشيخ الكبير، خرج الحسين (عليه السلام) حتى لايسلب الدين معناه من أفق الحياة.

وكما يقول الدكتور عبدالجبار الرفاعي “الدين ليس على الضد من الطبيعة البشرية، الدين يدعو للابتهاج، الدين يحتفي بالمسرات، الدين مادته المحبة، الدين يهمه تطهير القلب من الحقد”.. في مقالة يتناول الصوفية وتجربة جلال الدين الرومي، ويذكر “أن هذا الميراث الروحي والأخلاقي وأمثاله، سيهزم الفهم العنيف لدين البادية المولع بالموت، ولن يجد الفهم الآخر المسكون بالحزن فضاء له يتنفس فيه هنا”.

أنا أرى الحسين في الحياة وأنتم ترونه بالموت..

أرى الحسين في الجمال والحب والفن وأنتم ترونه بالقتل والدماء والبكاء…

فسلام عليك أبا عبدالله وأنت تشرق بالحياة عبر امتداد الزمان والمكان.

المقالات لا تعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن آراء كتابها
التعليقات (0)

لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!