
بقلم: سيف الحمدان
في خطبةٍ لا تخرج عن هدوء المرجعية الرصين، لكنها تفيضُ بدلالات تتجاوز حدود الكلمات، وجّه ممثل المرجعية الدينية العليا في كربلاء، الشيخ عبد المهدي الكربلائي، رسالة مشحونة بالإشارات غير المباشرة، تعكسُ قلقًا عميقًا مما تمر به المنطقة، وتُحذّر من أن العراق لم يعد محصنًا من تداعيات صراع يتسع أفقه يومًا بعد يوم.
العبارات التي وردت في خطبته – "الظروف التي تمر بها المنطقة بالغة الخطورة، والشعب العراقي ليس بمنأى من الصراع القائم فيها عاجلاً أو آجلاً" – ليست مجرد توصيف عام، بل هي إعلان مبكر لاحتمال دخول العراق في قلب عاصفة إقليمية قادمة، سواء بشكل مباشر أو من خلال تداعياتها السياسية والاقتصادية والأمنية. هذا التحذير، وإن جاء في سياق ديني معتاد، إلا أنه يحمل طابعًا سياسيًا بامتياز.
المرجعية، التي طالما تجنبت الدخول في تفاصيل الملفات الإقليمية، اختارت أن تضع الأصبع على الجرح، وتلفت الأنظار إلى أن الاستقرار الظاهري قد لا يصمد طويلًا أمام تحولات عنيفة محتملة في المشهدين الإقليمي والدولي، خاصة في ظل التصعيد المتكرر بين أطراف فاعلة في المنطقة، وتغيّر مواقف بعض القوى الكبرى.
لكن الأهم في خطاب الشيخ الكربلائي، كان في قوله: "إذا لم يسع العراقيون بجد لبناء بلدهم على أسس صحيحة فإن مستقبلهم لا يكون أفضل من حاضرهم".
هذا التصريح لا يحمل فقط نقدًا مبطنًا للواقع الحالي، بل يعكس نفاد صبر المرجعية من بطء الإصلاح، وتردي الأداء السياسي، واستمرار المحاصصة والفساد، وكأن الرسالة تقول بوضوح: إن لم تتغيروا الآن، فلن يكون الغد أقل سوءًا من اليوم، بل ربما يكون أكثر قسوة.
وفي فقرة أخرى، يوجّه ممثل المرجعية مناشدة مشفوعة بالتحذير حين يقول: "على من بيدهم الأمور أن يتقوا الله ويحكموا ضمائرهم ويراعوا في قراراتهم وتصرفاتهم مصلحة شعبهم وبلدهم والمنطقة كلها".
هذه ليست مجرد دعوة أخلاقية، بل هي تحميل مباشر للمسؤولية لمن يتخذون القرار، وتحذير من أن التهور، أو الانخراط في محاور إقليمية متصارعة، أو المضي في سياسات الإقصاء والمحسوبية، لن تنعكس آثارها على الداخل فقط، بل ستطول استقرار المنطقة برمتها.
لقد اعتادت المرجعية أن تلعب دور صمام الأمان، لكن تصريحاتها الأخيرة توحي بأنها لم تعد تكتفي بدور الناصح، بل بدأت تلوّح بجرس إنذار، في وقتٍ يراهن فيه كثيرون على استمرار "الركود السياسي" الذي يخفي تحته احتقاناً اجتماعياً واقتصادياً متزايداً.
من يقرأ ما بين سطور خطبة الشيخ الكربلائي، سيدرك أن المرجعية بدأت تدق ناقوس الخطر بصوت خافت، لكنها تهيئ المشهد لتصعيد الخطاب إن استمر التعامي عن الحاجة إلى تغيير جذري وحقيقي. فالبلد، كما تقول الخطبة ضمناً، لا يملك ترف الانتظار، ولا يحتمل المزيد من الإهمال واللامبالاة.
الخطابات الهادئة قد تحمل في باطنها نيراناً مؤجلة. وتصريحات المرجعية اليوم ليست سوى محاولة أخيرة لتدارك ما يمكن تداركه، قبل أن تغرق البلاد في موجة جديدة من الأزمات، قد لا تكون هذه المرة ناتجة عن الداخل وحده، بل بفعل رياح عاتية تهب من الخارج أيضاً.