- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الوكالة الدولية للطاقة الذرية فعلتها وحسب الطلب - الجزء الأول

بقلم: حسن الجنابي
يسعى الغرب، وبالنيابة عن إسرائيل في غالب الأحيان، إلى اضعاف هيئات الأمم المتحدة. هذا بالطبع في حال تعذر السيطرة الكاملة عليها، كما هو الحال في الهيئات الدولية المالية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وصندوق التنمية الزراعية الدولي، حيث تنعدم فرص المساواة بين الدول الأعضاء بسبب نسب المساهمات المالية لها في تلك الصناديق.
لم تتوقف محاولات الهيمنة منذ انشاء المنظومة الدولية. بل إن المنظومة الدولية نفسها بوكالاتها العديدة هي - واقعاً- مسارح للصراعات الدولية، ليس في ميادين الحروب الساخنة، بل تحت سقوف محايدة، يفترض -نظرياً- أن تُمنح داخل قاعاتها فرصاً متساوية للدول الأعضاء للتعبير عن مواقفها إزاء أحداث العالم. أي ان صراع الارادات يجري بطرقٍ "ناعمة" مع فارق أن أصوات أغلبية الأعضاء لا تُسمع خارج قاعات الاجتماعات، في حين أن أصوات الأقلية تعززها أساطيل وقواعد عسكرية مزودة بوسائل التدمير والتجسس والتدخل ونوازع السيطرة والاستغلال. مع ذلك تبقى تلك الأقلية من ورثة المستعمرين الأوائل، لأسباب عديدة، بحاجة الى مصادقة أكثرية الأعضاء الآخرين لإجراءاتهم في فرض مصالحهم. وإن حصلت تلك المصادقة فخيرٌ على خير، وإن لم تحصل فلن يؤثر ذلك كثيراً على مسار الأحداث!
بقدر تعلق الأمر بعنوان هذه المقالة، فإن الوكالة الدولية للطاقة الذرية نموذج للاستخدام السياسي والمناورة والتلاعب في مصائر دول الشرق الأوسط. فالوكالة هي المؤسسة الدولية المكلفة بالإشراف على الاستخدام السلمي للطاقة ومنع انتشار الأسلحة النووية، وقد لعبت أدواراً ايجابية في السابق في مسارات نزع السلاح بين دول حلفي وارسو والناتو إبان الحرب الباردة. لكنها طبّقت، والأصح أجبرت، على تطبيق معايير مزدوجة واضحة في حالة العراق عام 1981 وكذلك فيما يحصل حالياً في العدوان على المنشآت النووية الإيرانية.
تحولت الوكالة في الحالتين الى أداة لخدمة الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية، وفي تأمين تفوقها العسكري والتكنولوجي على دول المنطقة. وفي الحالتين قامت إسرائيل، المنفلتة من أي رادع قانوني أو التزام دولي، بالهجوم على مواقع تخضع للرقابة اليومية للوكالة، في بلدين عضوين في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وبرغم انعدام ما يشير بأي شكل من الأشكال إلى أن البرنامج النووي للبلدين قد خرج عن مساره السلمي المشروع واتخذ مسار تطوير الأسلحة. بل أن مجلس الأمن الدولي بأعضائه كافة صوّت على القرار 487 بتاريخ 19 حزيران 1981 المتضمن في الفقرة-4 منه الاعتراف بالحق المشروع للعراق في امتلاك برامج نووية سلمية، وأنه (أي العراق) كان ملتزماً بضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وان الوكالة نفسها عبّرت الى مجلس الأمن عن أن ضماناتها كانت تنفذ بصورة مقبولة في العراق.
لكن الوكالة كانت تغض النظر عن البرنامج النووي الإسرائيلي، الذي جرى تطويره بعيداً عن رقابتها، وأن إسرائيل ليست عضواً في معاهدة عدم نشر الأسلحة النووية أصلاً. وهنا خلل كبير في تطبيق المعايير الصارمة في مجال امتلاك الطاقة الذرية للأغراض السلمية لدى دول ملتزمة باتفاقية عدم نشر الأسلحة النووية، أمام العجز في ردع استخدام التكنولوجية النووية في صنع أسلحة فتاكة في إسرائيل.
أما العدوان الإسرائيلي الجاري حالياً على إيران فقد ارتبط عضوياً (زمنياً وسياسياً) بموقف الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي أعلن عنه في اجتماع مجلس محافظي الوكالة يوم 12 حزيران المتضمن، بضغوط غربية طبعاً، إشارات واضحة تدين إيران بسبب خلافات معتادة حول إجراءات معينة. وقد استخدمت اسرائيل ذلك كذريعة للعدوان بعد يوم واحد فقط من إعلان ذلك البيان، وقبل يومين من اجتماع أمريكي-إيراني متفق عليه لمواصلة المفاوضات بشأن البرنامج النووي الإيراني بعد أن أشيع حصول تقدم في جولات المفاوضات التي سبقت ذلك.
ولا شك في أن الموقف الأمريكي يمثل فضيحة أخلاقية وسياسية مدوية، إذ ان التواطؤ الأمريكي والتنسيق مع إسرائيل كان واضحاً لإجهاض أي اتفاق محتمل يتيح مواصلة إيران لبرنامجها النووي حسب المعايير الدولية. وقد أسهم بيان الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الذي تمت برمجته بتوقيت مناسب أيضاً، في ارتكاب تلك الفعلة الشنيعة في قصف المنشآت النووية وقتل العلماء والقادة العسكريين الإيرانيين في هجوم غادر.
وعلى القارئ أن يتذكر بأن الولايات المتحدة نفسها في فترة دونالد ترامب الأولى هي التي انسحبت من الاتفاق النووي بين الدول الخمسة الكبرى وإيران (اتفاق 5+1) بعد مفاوضات عسيرة وطويلة. وكان متوقعاً بأن ذلك الاتفاق كان سيؤمن الاستقرار في المنطقة ويبعدها عن الحرب. ثم جاء دونالد ترامب ثانيةً ليصفي الحساب وفق الإرادة الإسرائيلية، ضارباً بالاتفاقيات الدولية عرض الحائط، وليواصل تسليته بإلهاء العالم بتغريدات متناقضة ينشرها ليلاً ويلغيها صباحاً فيما تتواصل عملية الإبادة في غزة والقصف الوحشي على المنشآت المدنية والنووية الإيرانية.
وهكذا ستبقى إسرائيل القوة النووية الوحيدة التي تمتلك أكثر من 100 قنبلة نووية ولديها القدرة على انتاج 100 قنبلة أخرى في الوقت الذي تشاء، مع حرمان المنطقة من التكنولوجيا النووية بحسب ما تتيحه القوانين الدولية.
أقرأ ايضاً
- مأساة الأولويات: حينما تصنف الكرة قبل العلم في العراق
- الوكالة الدولية للطاقة الذرية فَعَلتْها وحسب الطلب - الجزء الثاني
- الوكالة الدولية للطاقة الذرية والاعتداء على الدول الأعضاء - الجزء الثاني والأخير