- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
معالم الشخصية المنافقة والحديث عن أزمة الثقة
بقلم: علي الراضي الخفاجي
إنَّ مايتصدر المشهد العالمي اليوم هو بروز الشخصية المنافقة في المجالات كافة، السياسية والاجتماعية والإدارية والأكاديمية وغيرها، وتقفُ وراء ذلك أسبابٌ كثيرةٌ، أهمُّها ضعف الإيمان وما يتركه من فراغ ويخلِّفه من تراجع في المبادئ والقيم، وهذه النتائج جعلت النفاق طابعاً حياتياً يتمُّ به تحقيق الذات وتعويض النقص وتلبية نزعة حبِّ الرئاسة، وقد خضعتْ هذه الظاهرة للسُّنن التاريخية وتطورتْ مع الزمن بما يخدم المنافق في ممارساته، مثله مثل السارق والمرابي فقد أكسبتهما الحياة خبرة وتطوراً في طرق الحصول على غاياتهم ونيل أغراضهم، ليس فقط على المستوى المحلي بل حتى على المستوى الدولي الذي أصبح فيه النفاق يتحكم في سياسات واقتصاديات مجتمعات ودول.
ولو راجعنا أصل كلمة النفاق، فإنها مُشتقَّة من النَّفق، وهو المسير تحت الأرض، حتى أصبح مايُشقُّ في متون الجبال يطلقُ عليها منافذ، لذا مايقوم به المنافق من عمل هو محاولة التحُّول من موقف إلى آخر بما يخدم مصلحته، فبينما يظهر لك شخصاً وديعاً وأميناً فإنَّهُ يضمرُ لك ويتربَّصُ بك، ويقفُ خلف واجهة ورديَّة تخطفُ الأبصار وتعميها عن رؤية الحقيقة.
هذا على المستوى الفردي، أما على المستوى الدولي فإنَّ دائرة النفاق تكون أكبر، فقد تظهر في الأزمات الاقتصادية والسياسية لاستغلال ماتتركه من فراغات وماتفرزه من تحولات.
وقد حذَّر القُرآن الكريم في آيات كثيرة من الشخصية المنافقة وحمَّلها مسؤولية إشعال الأزمات وخلق التناقضات، كونها تعمل على تفكيك وحدة المجتمع، فمن خلال مراجعة الآيات الكريمة، ونكتفي منها للبيان والتأمل ماورد في سورة البقرة من الآية 8-16، حيثُ يقولُ تعالى((ومن النَّاس من يقولُ آمنَّا بالله وباليوم الآخر وماهُمْ بمُؤمنين))، لايمكنُ أنْ يكون المنافقُ مؤمناً، فهو يُظهرُ غير مايُبطنُ، ومايقرُّ به اللسان لايكفي، فالإيمانُ لايحصلُ إلا بانعقاده في القلب وتجسيده بالعمل.
((يُخادعُون اللهَ والذينَ آمنُوا ومايخدعُون إلَّا أنفسهُمْ ومايشعرُون))، فإنَّ المنافق يُفكِّرُ في السيطرة على الجهات المختلفة التي يعمل معها، ثم يصطفُّ مع المنتصر لأجل تحقيق طموحه ونزعته لنيل السلطة، وهذه تجعل لسانه معسولاً، ولكنَّ قلبه مكبولاً، تماماً كالجاسوس المزدوج، وهؤلاء لايشعرون ولايتعقلون أنَّ مايحصلون عليه من انتصارات قد تصبحُ وبالاً عليهم، وتُذْهبُ سُنَّة التغيير بأثرهم وتأثيرهم.
فمثلما يجدُ المؤمن المصارحُ ذاته في واجهة واحدة لايختلفُ فيها لسانه عن قلبه، يجدُ المنافقُ ذاته في التأرجح بين الظاهر والباطن، ويريحه مايرى من تناقضات ليمرِّر من خلاله مطامحه.
((في قُلوبهم مرضٌ فزادَهُمُ اللهُ مرضاً ولهُمْ عذابٌ أليمٌ بما كانُوا يكذبُون))، فالنفاقُ مرضٌ، ومهما يقدِّم المنافق من تبريرات ويتمشدق بالشعارات فإنه يشعر بتمزُّق داخليٍّ وألمٍ في الضمير، وفي النهاية تذهبُ نفسُهُ حسراتٍ ضحيةُ لصراع المطامح.
((وإذا قيل لهُمْ لاتفسدُوا في الأرض قالُوا إنَّما نحنُ مصلحُون))، فقد يُظهرُ المنافقون أنَّهم مصلحُون، ويكونُ شعارهم على الدوام الدعوة إلى النُّصح والإصلاح لتمرير مآربهم، وهم في الواقع عنصر فساد، فهم يردُّون على أيِّ دعوة في الكفِّ عن الفساد والسماح للمسيرة بالاستمرار دون أزمات بأنهم ماجاءوا إلا للإصلاح.
((ألا إنَّهم هُمُ المفسدون ولكنْ لايشعرُون))، تكمنُ مشكلتهم في تدنِّي الوعي إلى درجة أنهم يعتقدون بصحة أفكارهم وممارساتهم، ولعلَّ ذلك تقفُ وراءه عقدة الشعور بالعظمة، لذا قلَّما تجدُ حاكماً فاسداً لم يُبرِّر جرائمه أو ندم على مافعل.
((وإذا قيل لهم آمنُوا كما آمن النَّاسُ قالُوا أنؤمنُ كما آمن السُّفهاء.ألا إنَّهم هم السُّفهاء ولكن لايعلمُون))، وهذا تقريرٌ لحقيقتهم، فهم يبنون حياتهم على أوهام وأحلام، ولعلَّ مايقوم به بعض الناس -في الجهات التي يتعاملون معها- بمدحهم والإشادة بأفعالهم، ويسلطون الأضواء عليهم يجعلهم يظنُّون أنهم الأذكى وأنهم المقدمون، وأما بقية الناس فتبعٌ ومتأخرون وسفهاء، مايجعلهم يستمرُّون في غيِّهم وغرورهم.
ثمَّ يتحدث سبحانه وتعالى عن صفة أخرى بارزة في المنافق وهي الازدواجية، فيقول((وإذا لقُوا الذين آمنُوا قالُوا آمنَّا وإذا خلَوا إلى شياطينهم قالُوا إنَّا معكُم إنَّما نحنُ مستهزءُون))، فهو يمتلكُ القدرة على التعامل بشخصيتين معلنةٌ ومتستِّرةٌ، كما أنه بارعٌ في التملق والمصانعة، فهو يحاولُ الاتصال بفريقٍ في غياب الفريق الآخر، وقد يُسخِّرُ قدراته لخلق أزمة ثقة حادَّة بينهم، لانتهاز فرص النصر والنجاح.
((اللهُ يستهزئُ بهمْ ويمدُّهُمْ في طغيانهم يَعْمَهُون))، مهما طال الزمن فإنَّ الله تعالى سوف يكشفهم، ويتركهم في ارتباك وتخبط قد عميتْ عليهم السُّبل وأعمى الطغيان بصائرهم.
ويقول جلَّ وعلا مايؤول إليه مصير هؤلاء((أولئك الذين اشْترَوُا الضَّلالة بالهُدَى فما ربحت تجارتُهُمْ وماكانُوا مُهْتدين))، بعد كلِّ ما أعطى المنافق من عمره وطاقته فإنَّهُ سيخسر، فقد لايحالفُهُ الحظ، وقد يكون في الآخَرين منْ هو أذكى منه.
واستمراراً في الحديث عن هذا الموضوع نتأمَّلُ في وصف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام للمنافق، حيثُ يقول:(أوصيكُمْ عبادَ اللهِ بتقوى اللهِ وأحذِّركُمْ أهلَ النِّفاقِ فإنَّهُم الضَّالون المُضلُّونَ والزَّالُّونَ المُزلُّونَ يتلوَّنُونَ ألواناً ويفتنونَ افتتاناً ويعمدُونكُمْ بكلِّ عمادٍ ويرصدُونكُمْ بكلِّ مِرْصاد، قلوبُهُمْ دويَّة(مريضة) وصفاحُهُمْ(وجوههم)نقيَّة... قد أعدُّوا لكلِّ حقٍّ باطلاً ولكلِّ حيٍّ قاتلاً ولكلِّ بابٍ مفتاحاً ولكلِّ ليلٍ مصباحاً..). سفينة البحار، 8: 306، وكأنَّ أمير البيان يصفُ حالهم في هذا الزمان.
ولعلَّ من أسباب فقدان الثقة بين الناس هي مايتمتَّعُ به البعض بهذه الصفة ولصعوبة تشخيصهم، فالمنافق لايمكنُ أن يتحالف مع الصِّدق في قوله وتصرُّفاته، فهو معه على نقيض، ولأجل تحقيق مايصبو إليه يكذب ويكذب حتى يتحول عنده الكذب إلى مَلَكَةٍ يتميَّزُ بها عن غيره، ويصبح النفاق عنده عبارة عن مرض مزمن لاينفعُ معه دواءٌ ولايُرجى منه شفاء.
أقرأ ايضاً
- عفوٌ .. عن ناهبي المال العام؟
- التعدد السكاني أزمة السياسة العراقية القادمة
- الآثار المترتبة على العنف الاسري