حجم النص
بقلم :علاوي كاظم كشيش
كنا بعد صلاة الظهر ننطلق مع الجموع راكضين من قنطرة السلام حتى مرقد الحسين ،تلك الظهيرة كانت في سطوعها ذاته الذي لا يتغير شتاء أم صيفا. تتلاطم امواج الاجساد ونحن منذ طفولتنا حتى صرنا شبابا كنا قد اعتدنا على هذا التصادم رغم ان نهر الرجال يتدفق وتتدافع أمواجه، شعور غريب يراودنا، كنت أسال أبي: يابه لماذا لا نركض قبل قتل الحسين؟. كان يبتسم ويتركني بلا جواب. الطريف ان الرجال يفردون لي وللأطفال معي موجة صغيرة تكفينا فلا يتزاحمون معنا، دائما كانت الظهيرة تقترن في مخيلتي ووعيي بالقتل والدم والانكشاف، كل شيء بلا زيادات ، كل شيء واضح، القتلة وافعالهم الخسيسة والضحية يزداد بياضا وشروقا في القلب ، خطاب يتمثله الطفل والشاب والرجل والنساء اللواتي يركضن معنا في ضفة نهر الرجال.
في سنين قادمة ، مع بداية الثمانينات، تغيرت الامور، فكان النداء المسموح به (يا حسين) فقط، عرفنا هذا من رجال الأمن المندسين في امواج الرجال، فهم يهتفون ليكرر الراكضون وراءهم (يا حسين) .لكن اغلب الراكضين يهتفون (أبد والله ما ننساحسيناه) تحديا للسلطة وقمعها ،فكان رجال الامن يلتقطون من يردد هذا الهتاف ويأخذونه الى حيث تقف سيارات الامن والنجدة وحتى سيارات الاسعاف استعملت لهذا الغرض.
فمما شهدت ان عمي كان رجلا كبيرا وغلبه التعب وهو يركض فسقط وحمله الناس الى سيارة الاسعاف في نهاية شارع قبلة الحسين ، ولكنه تعرض للتعذيب في سيارة الاسعاف ،ففي كل سيارة مفرزة امنية، وبدلا من ان تأخذه سيارة الاسعاف الى المستشفى، يمنحه رجال الامن نوبة تعذيب داخل سيارة الاسعاف ثم يرمونه في ساحة التربية ويعودون الى شارع القبلة ليأخذوا ضحية اخرى.
في نهاية السبعينات، انتشرت الكاميرات على سطوح البنايات لتصوير الراكضين والتعرف على وجوههم فيما بعد واعتقالهم، واكثر من هذا كان رجال الامن يستعملون علب الاصباغ ( السبري) فيرشون على قفا الراكض او ثيابه رشة من هذا الصبغ لكي يسهل اعتقاله وملاحقته.
في تلك الفترة كان رجال الامن يرتدون بدلة السفاري وهي بنطرون وقمصلة صيفية خفيفة ،وكانوا يقتنونها من الاورزدي باك بسعر 12 دينار، وحينذاك كبرنا وصارت هذه البدلات تتسق على اجسادنا، فكنا نشتريها، ونرتديها في ركضة طويريج، دفعا للشبهة ولكي يلتبس الامر على رجال الامن فهم كثيرون ويجلبونهم من مديريات الامن من بعض المحافظات اسنادا لرجال امن كربلاء، وكان دورنا انا وجماعتي من ابناء محلة المخيم أن نبادر الى اخذ من يلقون القبض عليه ونسحبه متظاهرين بأننا نعتقله ،لكنا كنا نسلمه الى النساء الواقفات على جانبي الركضة، ومن الرائع ان النساء كنّ يطردن رجال الامن ويعنفنهم ويخفين الرجل المقبوض عليه ويساعدنه على الافلات، وهؤلاء اكثرهم كانوا من الزوار، اما من تم رشقه بصبغة السبري فيجبلن له اي قطعة ثياب دشداشة او غيرها ليغير ملابسه، كان للنساء بطولات مسرة جدا ومنهن رأيت كم تكون المرأة قوية في الازمات.
كانت ظهيرة العاشر تكشف الاشياء والمواقف والاصوات كما هي ،ظهيرة يسطع فيها التاريخ والحاضر والدمع والفرح بالبطولة ،ظهيرة للتطهير الكامل لكل ما علق بالنفس من يأس وقنوط.
ظهيرة تعلم الطغاة (وان كانوا اغبياء ولا يتعلمون) أن الحياة نهر هادر له ديمومته ولا يمكن لهم أن يفرضوا مسارهم على هذا النهر،ودائما كنت اتذكر عبارة همنغواي ( يمكن قهر الانسان لكن لا يمكن تحطيمه) فكانت ظهيرتنا في العاشر من محرم تعني ونحن شباب مندفعون بالعمل والدراسة والانتماء الى مدينتنا الكريمة المضيئة، تعني لنا انسلاخنا من الحطام ومن المزايدات ومن تحويل الانسان الى حاجة هامشية في دول تهدر قيمة الانسان الذي هو اثمن واكرم مخلوق عند ربه الى سلعة يتاجرون بها، بهذه الظهيرة وضجيج امواج الرجال عرفنا ان الطغاة مهما كان نوعهم هم اغبياء وتافهون بدليل انهم لا يرعوون ولا يعتبر لاحقهم بسابقهم.
كانت ظهيرتنا حرة ساطعة وما زالت كذلك.
سلاما للاقدام التي تركض وهي تسطع بألمها وعرقها وجراحاتها لأجل لحظة تطهير تستمر على طول عمر الوعي.
أقرأ ايضاً
- ما حكاية 9/4 لهذه السنة
- لهذهِ الأَسباب يحمِي العراقِيُّون الحشدَ الشَّعبي!
- هل الحشد مخيف لهذه الدرجة !...