بقلم: نزار حيدر
قَولُ الحُسينِ السِّبط (ع) يُخاطِبُ طاغِيةَ الشَّامِ {وَجُرتَ حتَّى جاوَزتَ}.
صحيحٌ أَنَّ الظُّلمَ واحدٌ لا يتجزَّأ إِلَّا أَنَّهُ في نفسِ الوَقت على درجاتٍ أَخطرها عندما يتجاوَز الحاكِم كُلَّ الحدُود والخطُوط الحَمراء وهوَ يتعاملُ مع حقوقِ النَّاسِ وواجباتِ السُّلطة، وهو الأَمرُ الذي مارسهُ طاغيةَ الشَّام الطَّليقُ ابنُ الطَّليقِ مُعاوية بن أَبي سُفيان.
ولقد وظَّفَ الطاغية [٣] من أَخطرِ الأَدواتِ فتكاً لترسيخِ سُلطتهِ الظَّالمة وجبرُوتهِ الذي لم يكُن لهُ حدّاً ليعبثَ بدماءِ وأَعراضِ الأُمَّة!.
الأَداةُ الأُولى؛ هو الدِّين أَي المُقدَّس، فكان يُغلِّف كُلَّ جرائمهِ وظُلمهِ وفسادهِ وانحرافاتهِ وعدوانهِ على الحقُوقِ بالدِّين، من خلالِ توظيفِ جيشٍ من وُعَّاظ السَّلاطين الذين كانُوا يختلِقُونَ الأَحاديث كُلَّما احتاجت منهُم السُّلطةَ شيئاً مِنها مُقابلَ حفنةٍ من المالِ.
الأَداةُ الثَّانية؛ هي الإِرهاب، فلقد أَمعنَ الطَّاغية بإِذلالِ الأُمَّة والعُدوانِ عليها بالقتلِ والإِغتيالِ والغاراتِ والهجَماتِ الإِرهابيِّة وشعارهُ [خذُوهم بالظنَّةِ واقتلُوهُم بالتُّهمةِ].
ولقد كانت أَوامرهُ مُشدَّدة في التَّضييقِ ومُحاصرةِ ومُلاحقةِ كُلَّ مَن يُشَكُّ بولائهِ لأَبي تُراب، أَميرُ المُؤمنينَ (ع) فكانَ يُكرِّر إِرسالَ أَوامرهِ إِلى كُلِّ عُمَّالهِ في الأَمصارِ تقُولُ [أُنظرُوا مَن قامت عليهِ البيِّنةَ أَنَّهُ يُحِبُّ عليّاً وأَهلَ بيتهِ فامحُوهُ من الدِّيوان وأَسقِطُوا عطاءهُ ورِزقهُ].
الأَداةُ الثَّالثة؛ هي التَّضليل من خلالِ نشرِ الأَكاذيبِ والإِفتراءاتِ والطُّعونِ ضِدَّ كُلَّ مَن يُواجه ظُلمهِ ويتحدَّى جبروتهِ، وعلى رأسهِم وأَوَّلهم أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) كما يصفُ ذلكَ الإِمام بقولهِ وهوَ يصِفُ مكائدَ مُستشارهِ الأَوَّل عمرُو بنَ العاص {عَجَباً لِابْنِ النَّابِغَةِ! يَزْعُمُ لأَهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةً وأَنِّي امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ أُعَافِسُ وأُمَارِسُ! لَقَدْ قَالَ بَاطِلًا ونَطَقَ آثِماً.
أَمَا، وشَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ، إِنَّه لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ ويَعِدُ فَيُخْلِفُ ويُسْأَلُ فَيَبْخَلُ ويَسْأَلُ فَيُلْحِفُ ويَخُونُ الْعَهْدَ ويَقْطَعُ الإِلَّ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَيُّ زَاجِرٍ وآمِرٍ هُوَ! مَا لَمْ تَأْخُذِ السُّيُوفُ مَآخِذَهَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ مَكِيدَتِه أَنْ يَمْنَحَ الْقَرْمَ سَبَّتَه.
أَمَا واللَّه إِنِّي لَيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ وإِنَّه لَيَمْنَعُه مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْيَانُ الآخِرَةِ، إِنَّه لَمْ يُبَايِعْ مُعَاوِيَةَ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَه أَتِيَّةً ويَرْضَخَ لَه عَلَى تَرْكِ الدِّينِ رَضِيخَةً}.
لقد مارسَ طاغيةُ الشَّام سياسةَ التَّجهيل بحقِّ الأُمَّة حتَّى باتت النَّاس لا تُميِّز بينَ النَّاقةِ والجمَل، فما بالكَ بين الحقِّ والباطِل؟! لذلكَ استغربُوا وسيطرَت عليهِمُ الدَّهشةَ عندما سمِعوا بخبرِ استشهادِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) في محرابِ مسجدِ الكوفةِ فتساءلُوا [وهل يُصلِّي علي بن أَبي طالبٍ]؟!.
ولكَ أَن تتخيَّل حجمِ التَّضليلِ والخداعِ الذي مورِسَ بحقِّهِم حتَّى غسلَ أَدمِغتهُم!.
يذكرُ إِبنُ أَبي الحديد المُعتزلي في شرحهِ لنهجِ البلاغةِ يشرح هذهِ السِّياسة الظَّالمة التي اعتمدَت الإِرهاب الفكري والتَّحريف العقدي في آنٍ واحدٍ [ثُمَّ كتبَ إِلى عُمَّالهِ أَنَّ الحديثَ في عُثمانَ قد كثُرَ وفَشا في كُلِّ مِصْرٍ وفي كُلِّ وجهٍ وناحِيةٍ فإِذا جاءكُم كتابي هذا فادعُوا النَّاسَ إِلى الرِّوايةِ في فضائلِ الصَّحابةِ والخُلفاءِ الأَوَّلينَ ولا تتركُوا خبراً يرويهِ أَحدٌ منَ المُسلمينَ في أَبى تُرابٍ إِلَّا وتأتُوني بمُناقضٍ لهُ في الصَّحابةِ فإِنَّ هذا أَحبُّ إِليَّ وأَقرَّ لعَيني وأَدحضَ لحُجَّةِ أَبى تُرابٍ وشيعتهِ وأَشدَّ عليهِم من مناقبِ عُثمانَ وفضلهِ.
فقُرئت كتبهُ على النَّاسِ فرُويَت أَخبارَ كثيرةٍ في مناقبِ الصَّحابةِ مُفتعلةً لا حقيقةَ لها وجدَ النَّاسُ في روايةِ ما يجري هذا المَجرى حتَّى أَشادُوا بذكرِ ذلكَ على المنابرِ وأُلقيَ إِلى مُعلِّمي الكتاتيبِ فعلَّمُوا صبيانهُم وغِلمانهُم من ذلكَ الكثير الواسِع حتَّى روَوهُ وتعلَّموهُ كما يتعلَّمونَ القُرآن وحتَّى علَّمُوهُ بناتهُم ونساءهُم وخدَمهُم وحشمَهُم فلبِثُوا بذلكَ ما شاءَ الله].
ثُمَّ كتبَ إِلى عُمَّالهِ نُسخةً واحدةً إِلى جميعِ البُلدانِ( انظرُوا مَن قامَت عليهِ البيِّنة أَنَّهُ يُحِبُّ عليّاً وأَهلَ بيتهِ فامحُوهُ من الدِّيوان وأَسقِطُوا عطاءهُ ورِزقهُ) وشفَّعَ ذلكَ بنُسخةٍ أُخرى (مَن اتَّهمتُوهُ بمُوالاةِ هؤُلاءِ القَوم فنكِّلُوا بهِ واهدمُوا دارهُ) فلم يكُن البلاءُ أَشدَّ ولا أَكثرَ منهُ بالعراقِ ولا سيَّما بالكُوفة حتَّى إِنَّ الرَّجُلَ من شيعةِ عليٍّ (ع) ليَأتيهِ مَن يثِقُ بهِ فيدخلَ بيتهُ فيُلقي إِليه سِرَّهُ ويخافُ من خادمهِ ومملُوكهِ ولا يُحدِّثهُ حتَّى يأخُذَ عليهِ الأَيمانَ الغليظةَ لِيكتُمنَّ عليهِ فظهرَ حديثٌ كثيرٌ موضوعٌ وبُهتانٌ مُنتشِرٌ ومضى على ذلكَ الفُقهاء والقُضاة والوُلاة وكانَ أَعظمُ النَّاسَ في ذلكَ بليَّةً القُرَّاءَ المُراءُونَ والمُستضعَفونَ الذين يُظهِرُونَ الخشُوعَ والنُّسك فيفتعلُونَ الأَحاديث لِيحظُوا بذلكَ عندَ وُلاتهِم ويقربُوا مجالسهُم ويُصيبُوا بهِ الأَموالَ والضِّياعَ].
لقد أَشار أَميرُ المُؤمنينَ (ع) إِلى هذهِ السِّياسة التدميريَّة بقولهِ {أَلَا وإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ وعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ}.
وهو (ع) يشيرُ إِلى مُعادلةٍ في غايةِ الخُطورةِ تعتمد التَّجهيل والتَّضليل لتستسلِم بعدها الأُمَّة لسياساتِ الحاكمِ الظَّالمِ مهما كان نوعَها، لأَنَّ التَّجهيل والتَّضليل يُخدِّر الأُمَّة ويسلبَها عقلَها فلم تعُد تُفكِّر لتُميِّز الأُمور، وهي الحالةُ التي تقودَها إِلى الصنميَّة وعبادةِ الدِّيكتاتور.
طبعاً هذهِ المُعادلة كذلكَ يُحقِّقها الطَّاغوت بالكذبِ والتَّزويرِ وقلبِ الحقائقِ، فعندما يُرِيدُ [إِقناعَ] الأُمَّة بوجوبِ طاعةِ [الأَميرِ] بغضِّ النَّظر عن أَفعالهِ وسلوكيَّاتهِ ومُمارساتهِ والتزاماتهِ وقُربهِ وبُعدهِ عن الدِّينِ والأَخلاقِ وحرصهِ على المالِ العام والمصالِح العُليا للأُمَّة، ساقَ وُعَّاظ السَّلاطين ونزُولاً عندَ رغبةِ الطَّاغية مجموعة من الرِّوايات المُزوَّرة والمُزيَّفة تحثُّ على الطَّاعةِ على أَيِّ حالٍ، كروايتهِم كذِباً وافتراءً {تسمعُ وتطيعُ للأَميرِ وإِن ضربَ ظهركَ وأَخذَ مالكَ فاسمَع وأَطع} وقولهُم {السُّلطان ظِلُّ الله على الأَرض فمَن أَهانهُ أَهانهُ الله ومَن أَكرمهُ أَكرمهُ الله} وقولُ أَحدهِم يُبرِّرُ ظُلم الحاكمِ وقهرهِ لعبادِ الله {أَمَّا الخروجُ عليهِم وقتالهِم فحرامٌ بإِجماعِ المُسلمينَ وإِن كانُوا فسَقةً ظالمينَ وأَجمعَ أَهلُ الأُمَّة على أَنَّهُ لا ينعزِلُ السُّلطان بالفِسق}.
ولقد زعمَ الخليفة المنصور العبَّاسي إِنَّما هوَ سُلطانُ الله في أَرضهِ، ويُضيفُ القاضي المصري علي عبد الرزَّاق في كتابهِ [الإِسلام وأُصُول الحكم] [كذلكَ شاعَ هذا الرَّأي وتحدَّث بهِ العُلماء والشُّعراء منذُ القُرُونَ الأُولى فتراهُم يذهبُونَ دائماً إِلى أَنَّ الله جلَّ شأنُهُ هوَ الذي يختارُ الخليفةَ ويسُوقُ إِليهِ الخِلافةَ، على نحوِ ما ترى في قَولهِ؛
جاءَ الخِلافةَ أَو كانت لهُ قدراً * كما أَتى ربَّهُ موسى على قدَرِ
ولقد كانَ شيُوع هذا الرَّأي وجريانهِ على الأَلسِنَةِ مما سهَّلَ على الشُّعراء أَن يصِلُوا في مُبالغتِهِم إِلى وضعِ الخُلفاء في مواضعِ العِزَّة القُدسيَّة أَو قريباً منها حتَّى قالَ قائِلهُم؛ ما شِئتَ لا ما شاءتِ الأَقدارُ * فاحكُم فأَنتَ الواحِدُ القهَّارُ
ولهذا السَّبب سكتَت الأُمَّة على الوالي السكِّير الذي صلَّى بها الفَجر [٤] ركَعات وعندما انتهَى منها أَدار وجههُ للمُصلِّينَ وسأَلهُم؛ [هلْ أُزيدُكُم] ردُّوا؛ لا هذا يَكفي!.
وللأَسفِ الشَّديد فلقد سارَت هذهِ السِّياسات المُنحرفة في الأُمَّة كدستورٍ وقوانينَ وقواعدَ ومفاهيمَ وتقاليدَ حُكمٍ وسُلطةٍ إِلى يومِنا هذا، فالإِتِّجار بالدِّين والمُقدَّسات وبالرُّموز التاريخيَّة على قدمٍ وساقٍ يُمارسهُ حتَّى الذي يظنُّ النَّاسَ أَنَّهُم يسيرُونَ بالحُكمِ على نهجِ أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) الذي يرفضَ كُلَّ هذهِ الخُزعبلات التي ما أَنزلَ الله تعالى بها من سُلطانٍ لأَنَّ معيارهُ في السُّلطةِ الحقَّ والعدلَ والإِنصافَ وليسَ الهويَّة والخلفيَّة.
يقولُ (ع) يشرح خرُوج الأُمَّة على الخليفةِ الثَّالث {لَوْ أَمَرْتُ بِه لَكُنْتُ قَاتِلًا أَوْ نَهَيْتُ عَنْه لَكُنْتُ نَاصِراً غَيْرَ أَنَّ مَنْ نَصَرَه لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ خَذَلَه مَنْ أَنَا خَيْرٌ مِنْه ومَنْ خَذَلَه لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُولَ نَصَرَه مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي.
وأَنَا جَامِعٌ لَكُمْ أَمْرَهُ؛ اسْتَأْثَرَ فَأَسَاءَ الأَثَرَةَ وجَزِعْتُمْ فَأَسَأْتُمُ الْجَزَعَ ولِلَّه حُكْمٌ وَاقِعٌ فِي الْمُسْتَأْثِرِ والْجَازِعِ}.
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول