بقلم: نزار حيدر
قَولُ الحُسينِ السِّبط (ع) {فمَن قبِلَني بقَبُولِ الحقِّ فاللهُ أَولى بالحَقِّ}.
هنا يؤَسِّس الإِمام لقاعدةٍ ومعيارٍ في غايةِ الأَهميَّة تقولُ أَنَّ مِحور الحركة والسَّكنة الحقيقيَّة هو الحقُّ وليسَ أَيَّ شيءٍ آخر.
يقولُ تعالى {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
وقالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ عَبَّاسٍ؛ دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) بِذِي قَارٍ وهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَه فَقَالَ لِي؛ مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ؟ فَقُلْتُ؛ لَا قِيمَةَ لَهَا! فَقَالَ (ع) {واللَّه لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلًا}.
فكل علاقة يجب ان يكون اساسها الحق وليس العشيرة او الحزب او الزي او العنوان او المنطقة او ما الى ذلك.
حتَّى علاقتكَ مع الإِمام يجبُ أَن لا تقومَ على مِعيارِ الإِسمِ والرسمِ والصِّفةِ أَو على أَساسِ علاقتهِ برسولِ الله (ص) وإِنَّما يجبُ أَن تقومَ على أَساسِ الحقِّ ووعيكَ واستيعابِكَ للحقِّ، فكُلَّما تأَسَّست علاقتكَ مع الإِمام على هذهِ القاعِدة من دونِ أَيِّ عنوانٍ آخر، كُلَّما كانت أَقوى وأَكثرُ ثباتاً واستقراراُ وديمُومةً، والعكسُ هو الصَّحيح، فإِذا كانت علاقتكَ معَ الحُسينِ السِّبط (ع) مبنيَّة على عناوينَ ثانويَّة فستتكرَّر عندكَ الظَّاهرة الكوفيَّة التي يبدُو أَنَّها كانت مهزُوزةً كَونها لم تكُن قد بُنيَت وقامت على أَساسِ الحقِّ، وإِنَّما على أَساسِ عناوينَ أُخرى ولذلكَ انفرطَ عقدَها عند أَوَّل تحدِّي.
ولقد سعى الحُسينُ السِّبط (ع) لأَن تكونَ مواقِفَ النَّاسِ منهُ ومن نهضتهِ مبنيَّة على الحقِّ، أَي أَن يقبلوهُ لأَنَّهُ على حقِّ وليسَ لأَيِّ أَمرٍ آخر، لتكونَ العلاقةُ متينةٍ غَيْر مهزوزةٍ، فهوَ (ع) لم يشأ أَن يخدعهُم أَو أَن يربطهُم بهِ عاطفيّاً أَبداً.
إِنَّهُ خاطبَ عقُولهُم قبلَ مشاعرهِم وقلوبهُم قبلَ عواطفهِم.
يقولُ تعالى {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ۚ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ۗ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ۖ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.
ويقولُ رسولُ الله (ص) {عليٌّ معَ الحقِّ والحقُّ معَ عليٍّ، يدورُ معهُ حيثُما دارَ} وقولهُ {عليٌّ معَ الحقِّ والقُرآن، والحقُّ والقُرآنُ معَ عليٍّ، ولن يتفرِقا حتَّى يرِدا عليَّ الحَوض}.
ولذلكَ قالَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) لطاغيةِ الشَّام مُعاوِية الطَّليقُ إِبنُ الطَّليقِ كنتيجةٍ طبيعيَّةٍ وحتميَّةٍ لهذا التَّلازُم بينَ عليِّ والحقِّ وعليِّ والقُرآن {وعِنْدِي السَّيْفُ الَّذِي أَعْضَضْتُه بِجَدِّكَ وخَالِكَ وأَخِيكَ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ} وقولهُ (ع) لهُ {فَأَنَا أَبُو حَسَنٍ قَاتِلُ جَدِّكَ وأَخِيكَ وخَالِكَ شَدْخاً يَوْمَ بَدْرٍ وذَلِكَ السَّيْفُ مَعِي وبِذَلِكَ الْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي مَا اسْتَبْدَلْتُ دِيناً ولَا اسْتَحْدَثْتُ نَبِيّاً، وإِنِّي لَعَلَى الْمِنْهَاجِ الَّذِي تَرَكْتُمُوه طَائِعِينَ ودَخَلْتُمْ فِيه مُكْرَهِينَ}.
وكتبَ إِلى بعضِ عُمَّالهِ الخَونة يقولُ {ولأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِه أَحَداً إِلَّا دَخَلَ النَّارَ}.
ذاتُ المنهجِ والمبدأ والمُنتهى سارَ عليهِ الحُسين السِّبط (ع) بقولهِ {فمَن قبِلَني بقَبُولِ الحقِّ فاللهُ أَولى بالحَقِّ}.
إِنَّ عاشوراء تُرسِّخ فينا مبدأ إِتِّباع الحق وليسَ الرِّجال أَو الهويَّة أَو الإِنتماء، فلقد قِيلَ إِنَّ الْحَارِثَ بْنَ حَوْطٍ أَتَى أَميرِ المُؤمنينَ (ع) فَقَالَ؛ أَتَرَانِي أَظُنُّ أَصْحَابَ الْجَمَلِ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ؟.
فَقَالَ (ع) {يَا حَارِثُ إِنَّكَ نَظَرْتَ تَحْتَكَ ولَمْ تَنْظُرْ فَوْقَكَ فَحِرْتَ، إِنَّكَ لَمْ تَعْرِفِ الْحَقَّ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاه، ولَمْ تَعْرِفِ الْبَاطِلَ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاه}.
فَقَالَ الْحَارِثُ فَإِنِّي أَعْتَزِلُ مَعَ سَعِيدِ بْنِ مَالِكٍ وعَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ، فَقَالَ (ع) {إِنَّ سَعِيداً وعَبْدَ اللَّه بْنَ عُمَرَ لَمْ يَنْصُرَا الْحَقَّ ولَمْ يَخْذُلَا الْبَاطِلَ}.
وبهذا الوعي الرِّسالي العلوي الحُسيني:
١/ تحذر من ظاهرةِ عبادةِ الشخصيَّة والصنميَّة التي ابتُليَ بها اليَوم الكثيرُ منَ النَّاسِ، والتي تعني أَن تتَّبعَ [الزَّعيم] على أَيَّةِ حالٍ وليسَ لأَنَّهُ على حقٍ أَو أَنَّ نهجهُ صحيحٌ وسيرتهُ مستقيمةٌ.
عندَ عبدةِ الأَصنام فإِنَّ الحقَّ يتجلَّى بالزَّعيم! ولذلكَ يتَّبِعونهُ حتَّى إِذا قادهُم إِلى جهنَّم، فهو يرفضُونَ مُحاسبتهُ أَو إِنتقادهُ أَو حتى سؤَالهُ والإِستفسارَ منهُ! لأَنَّ ذلكَ يُقلِّلُ من قيمةِ الحقِّ!.
٢/ ستُواجه الخطأ والإِنحراف والإِبتعاد عن جادَّةِ الصَّواب بغضِّ النَّظر عمَّن يأتي بكُلِّ ذلكَ، حتَّى إِذا جاءَ من زعيمِكَ الأَوحد ورمزكَ الإِستثنائي.
بهذا الوعي يُمكنُ أَن يتبدَّلَ الرَّمز الصَّالح إِلى فردٍ طالحٍ تافهٍ إِذا انقلبَ على الحقِّ.
يصِفُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) إِمكانيَّة حصولِ ذلكَ بقَولهِ {مَا زَالَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ ، حَتَّى نَشَأَ ابْنُه الْمَشْئُومُ عَبْدُ اللَّه}.
٣/ تعمل على إِقامةِ الحقِّ والعدلِ وتُضحِّي من أَجلهِما وليسَ من أَجلِ أَن يكونَ فُلانٌ في السُّلطةِ أَو عِلَّان في موقعِ المسؤُوليَّة.
وعندما يُغيِّر، يفسِدُ مثلاً أَو يفشلُ، فلا تأخُذكَ عاطفةَ الإِنتماءِ المذهبي أَو الحزبي أَو العشائري فتظلَّ تُدافعَ عنهُ وتبرِّرَ له، أَبداً، لأَنَّ معياركَ هو الحقُّ والعدلُ وليسَ الشَّخصُ والحزبُ مثلاً!.
إِنَّ الفرقَ كبيرٌ جدّاً بينَ أَن يكونَ الحقُّ هو المبنى العقَدي والفِكري الذي تتَّخذهُ كخارطةِ طريقٍ في سلُوككَ اليَومي، بغضِّ النَّظرِ عن الهويَّةِ والإِنتماءِ، وبينَ أَن يكونَ الثَّابت الوحيد هو شخص الزَّعيم أَو إِسمٌ بعينهِ وهويَّةٌ بذاتِها.
عاشُوراء لم تكُن كذلكَ أَبداً ولن تكونَ كذلكَ، لأَنَّ شخصَنة المَبنى العقَدي يُدمِّر الأَهداف المُقدَّسة ويقضي على المساراتِ السَّليمة.
وبالنِّسبةِ إِلى كربلاء فكُلَّ شيءٍ يدُورُ مدارَ الحقِّ والحقِّ فقط، رفضُ الإِمام للبَيعةِ وخرُوجهُ على السُّلطةِ الباطلةِ والظَّالمةِ وخرُوجهُ من أَجلِ سُلطةِ الحقِّ، وهجرتهُ من المدينةِ إِلى مكَّةَ ومِنها إِلى الكُوفةِ ثُمَّ تغيير مسارِ حركتهِ إِلى كربلاء حيثُ مصرعهِ والثُّلَّة المُؤمنة المُخلصة.
هو خطٌ واحدٌ يربط كُلَّ هذهِ النُّقاط أَلا وهوَ خطُّ الحقِّ، ولذلكَ فإِنَّ الذينَ التحقُوا بالحُسينِ السِّبط (ع) لم يكونُوا كلُّهم من هويَّةٍ أَو خلفيَّةٍ واحدةٍ لأَنَّ المِعيار هوَ الحقُّ وليسَ الهويَّة والإِنتماء.
يقولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {أَمَا واللَّه إِنْ كُنْتُ لَفِي سَاقَتِهَا حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا؛ مَا عَجَزْتُ ولَا جَبُنْتُ وإِنَّ مَسِيرِي هَذَا لِمِثْلِهَا فَلأَنْقُبَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّى يَخْرُجَ الْحَقُّ مِنْ جَنْبِه} و {فَقُمْتُ بِالأَمْرِ حِينَ فَشِلُوا وتَطَلَّعْتُ حِينَ تَقَبَّعُوا ونَطَقْتُ حِينَ تَعْتَعُوا ومَضَيْتُ بِنُورِ اللَّه حِينَ وَقَفُوا، وكُنْتُ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً وأَعْلَاهُمْ فَوْتاً فَطِرْتُ بِعِنَانِهَا واسْتَبْدَدْتُ بِرِهَانِهَا كَالْجَبَلِ لَا تُحَرِّكُهُ الْقَوَاصِفُ ولَا تُزِيلُهُ الْعَوَاصِفُ، لَمْ يَكُنْ لأَحَدٍ فِيَّ مَهْمَزٌ ولَا لِقَائِلٍ فِيَّ مَغْمَزٌ، الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَه والْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْه}.
وصدقَ رسولُ الله (ص) الذي وصفَ الحقَّ بأَنَّهُ {يدُورُ معَ عليٍّ حيثُ ما دارَ}.
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول