- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
النقص التشريعي لمكافحة الفساد في العراق
بقلم: د. اسامة شهاب حمد الجعفري
لم تعد صناعة التشريع تنتهي بمجرد صدوره ونشره، انما ينبغي قياس جودة التشريعات من خلال تتبع الاثر الذي انتجته في المجتمعات عن مدى تحقيق غاياتها. فعلى الرغم من تشريع قانون هيئة النزاهة و الكسب غير المشروع رقم 30 لسنة 2011 الذي حل محل أمر سلطة الائتلاف المؤقتة رقم 55 لسنة 2004 والذي بموجبه تأسست هيأة النزاهة العامة الاتحادية الا ان الفساد في العراق و منذ ذلك الحين في تنامي وتزايد حتى بات يهدد النظام السياسي في شرعيته و مقبوليته. وهذا التزايد في معدلات الفساد الاداري و المالي احد اهم اسبابه هي المنظومة التشريعية نفسها التي تواجهه، فقانون هيئة النزاهة الاتحادية قاصراً عن الحماية الموضوعية والاجرائية للمال العام.
ويتمثل القصور في الحماية الموضوعية للمال العام في ان العراق ليس لديه قانون خاص بمكافحة الفساد و انما لديه قانون هيئة النزاهة الاتحادية الذي يختص ببيان تشكيلات هذه الهيئة وهيكلها الاداري وصلاحياتها من دون الغوص عميقاً بتحديد صور افعال الفساد وعقوباتها بشكل يتناسب و حجم هذا التزايد اذ اعتمد اعتماداً كلياً على القواعد العامة في قانون العقوبات رقم 111 المشرَع عام 1969 عندما كان الفساد لا يشكل تهديداً.
وهذه القواعد لم تستطع ان تجرم كل صور الفساد ولم تقرر عقوبات رادعة تتناسب مع خطورة هذه الجرائم واضرارها لانها اغفلت خصوصية جرائم الفساد التي تتميز بغياب الاذى الشخصي (الضرر المباشر) الناتج عن الجريمة و سرية ارتكابها و عدم الشعور بأضرارها الا بعد مرور وقت طويل اذ تظهر للعيان بصور الفشل العام عن توفير الخدمات، فتضيع معالم الجريمة في عمومية اثارها على الجميع.
اذ ان هذا القانون لم يجرم الاتجار بالنفوذ و هو احد الصور الشائعة للفساد في الوظيفة العامة اذ يستخدم الموظف العام نفوذه المستمد من وظيفته للتأثير على الموظفين لتحقيق مصلحة له او لغيره. واقتصر تجريمه للاختلاس على الصورة التقليدية المتمثلة باختلاس مال وترك صورة اختلاس منفعة المال العام عبر الاستخدام غير المشروع له خارج التجريم، فإن مجرد الاستخدام غير المشروع للاموال العامة و لو لم يقترن بنية التملك فهو اختلاس لفوائد و منافع المال العام نفسه.
و لم تمتد سياسة التجريم و العقاب الى صورة محاولة الاختلاس ولو لم يحصل الاختلاس لتحقيق رادع اكبر. ولم تمتد نحو تجريم اختلاس اموال القطاع الخاص فأموال هذه المشروعات وان كانت ليست من الاموال العامة الا ان اتصالها الوثيق بالاقتصاد القومي يقتضي من المشرع رعاية اوفى.
ومن التعارض بين قانون العقوبات و قانون ديوان الرقابة المالية الاتحادي رقم 31 لسنة 2011 الذي عد جريمة هدر المال العام و تبذيره من جرائم الفساد الا ان هذه الجرائم خالية عن اي عقوبة وهي صور غير تقليدية لجريمة الاختلاس فلا يشترط فيها الاثراء الشخصي و انما يكفي لتحقيقها تغييب ثمار المال العام عن حياة المواطنين بسوء ادارته و ضياعه و تبذيره.
ولم تعد هذه السياسة جريمتي تجاوز الموظفين حدود وظائفهم والكسب غير المشروع من جرائم المخلة بالشرف و من ثم يحق لمرتكبي هذه الجرائم البقاء في مناصبهم و الترشيح و اشغال المناصب العليا في الدولة على الرغم من امتلاكهم قيد جنائي يتعلق بجرائم الفساد وهذا خلافاً للمنطق القانوني السليم الذي يقضي بان تكون كل جرائم الفساد هي جرائم مخلة بالشرف تبرر عزل الموظف و المكلف بخدمة عامة من الوظيفة لانه غير جدير بالثقة العامة، خاصة وان اغلب جرائم الفساد تكيف تكييفاً قانونياً من هذا النوع من الجرائم فتكون هذه القوانين بمثابة اعادة تدوير الفاسدين نحو الوظيفة العامة لاستمرار الفساد فيها.
ولم يتضمن قانون النزاهة نص خاص يجرم صور المساهمة و التحريض و الشروع في تجريم افعال الفساد، فجرائم الفساد ترتكب غالباً بجهود مشتركة ومن خلال شبكة سرية وان وجود مثل هذا النص يساعد على كشف هذه الشبكات التي حرضت و سهلت و ساهمت على نهب المال العام. و لم تتضمن المنظومة التشريعية جريمة الفشل العام عن مكافحة الفساد كما فعل المشرع البريطاني الذي اقر هذا النوع من الجرائم.
اما القصور التشريعي في الحماية الاجرائية للمال العام فان من خصوصية جرائم الفساد انها ترتكب في العتمة وفي الاروقة السرية للوظيفة فيصعب الوصول الى دليل اثبات هذه الجرائم اضافة الى ان ادلة اثبات جرائم الفساد محاطة بترسانة من القوانين التي تمنع الوصول الى الدليل و المعلومة و الوثيقة التي تثبتها فقوانين الوظيفة العامة تقرر سرية العمل الوظيفي بل و تجرم افشاء اسرار الوظيفة بشكل مطلق و من دون تعديل قوانين الخدمة المدنية التي تحكم الوظيفة العامة و رفع سرية العمل الاداري و تشريع قانون الشفافية الذي يسمح في الوصول القانوني الى المعلومة والوثائق تبقى جرائم الفساد محمية بالقانون و تبقى الجهود المجتمعية لمكافحة الفساد جهود ضعيفة و تحت طائلة القانون لان القانون سيكون الى جانب الفاسدين و سلاحاً بأيديهم لمكافحة كل مواطن صادق يقوم بواجبه الدستوري في حماية المال العام.
كما ان حجر الزاوية في قوانين مكافحة الفساد مفقود في العراق اذ يعد استرداد عوائد الفساد حجر الزاوية في عملية مكافحة الفساد لان حرمان مرتكبي جرائم الفساد من ثمرة مشروعهم الاجرامي هو الجزاء الاكثر ايلاماً و ردعاً لهم الا ان العراق لا يملك لحد الان قانون اجرائي فعال يبين طرق الاستدلال و التقصي لاسترداد الاموال و هذا نقص هائل في عملية مكافحة الفساد.
أقرأ ايضاً
- أهمية التعداد العام لمن هم داخل وخارج العراق
- الذكاء الاصطناعي الثورة القادمة في مكافحة الفساد
- ضرائب مقترحة تقلق العراقيين والتخوف من سرقة قرن أخرى