- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الإعداد الروحي.. سَعي الإنسان وكدحه في إعداده روحياً ـ الجزء الرابع عشر والاخير
بقلم: الشيخ محمود الحلي الخفاجي
ـ سَعي الإنسان وكدحه في إعداده روحياً:
القرآن وصف العلاقة المراد تحققها في الإرتباط بالله عزوجل بأنها موصوفة بالكدح: (إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) فما هو هذا الكدح؟.
جاء في مفردات الراغب الأصفهاني: إنّ الكدح بمعنى السعي المشوب بالمعاناة والتعب. وهو أيضاً يعني السير والحركة ويمكن الإستفادة من آية الكدح هو أنّ القرآن قد شبَّه الناس في وجودهم في هذا العالم بالقافلة التي بدأ سيرها حين وضعت أقدامها في هذا الوجود، ثم اتّجهت من هناك إلى الغاية وهو الله عزوجل كي تصل إلى لقائه كي تتكامل، ومن الممكن أن يتخلف قسم من الناس عن ركوب هذه القافلة ولا يحصلوا على لقاء الله عزوجل، لكن الأساس في خلق الإنسان هو الوصول إلى هذا الهدف. و(لقاء اللَّه) يعني المشاهدة القلبية: (يامن قرب من خواطر الظنون وبعد عن ملاحظة العيون). والآية القرآنية تقرر قانون أساسي، وهو أن حياة الإنسان مقترنة بالتعب والعناء، وإن كان الهدف منها هو الوصول إلى رضوان اللّه ولقائه. وقد جاء نسبة الكدح الى(ربه) فيه إشارة إلى وجود ارتباط بين كدح الإنسان من جهة والهدى الإلهي الذي سيشكل مصدر التوجيه والتربية الذي أعدّه الله عزوجل للإنسان نحو الكمال.
فالكدح معناه رحلة الإنسان إليه تعالى من ظلمة عالم المادة العمياء الى الحضور الإلهي الذي سيعيشه الإنسان الكادح (بحسب التعبير القرآني) واستشعار وجوده تعالى ورقابته عزوجل. وقد أشارت الأحاديث والروايات الشريفة الواردة عن النبي (صلى واله) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام)، أن بداية هذا الكدح هو معرفة الله تعالى، وأن رحلة الكدح هذه رحلة شاقة وصعبة لأن حب الدنيا والهوى وحب الأنا يبقى يلاحق هذا الكدح ويصارعه، وعندما يقوى تعلق قلب العبد بربه فأنه سيضعف عنده تعلقه بالدنيا وشهواتها وإغراءاتها وأهواء نفسه، فيصبح العبد حينئذ عبداً مطيعاً لله عزوجل، لأن معرفة الله عرفته بالدنيا وعرفته بالغاية فأشرقت هذه المعرفة على قلبه وانعكست على بقية علائقه في الحياة، أي إن هذه المعرفة خرجت من الجوانح(إعتقادات الباطن) الى الجوراح (سلوكيات وأعمال).
فإذا عرف ربه فوض إليه أمره والتسليم إليه وهو أعلى مراتب التوجه إلى الله عزوجل، يقول أمير المؤمنين (ع): (الأيمان له اربعة أركان: التوكل على الله، وتفويض الأمر الى الله، والرضا بقضاء الله، والتسليم لأمر الله), وبالتفويض يسلم الإنسان بإطمئنان أمره كله لله عزوجل.
ـ في عصرنا أن الحضارة المادية طغت على كل شيء, والتي ركزت على كل ما هو مادي محسوس وتجاهلت كل ما هو قيمي وما هو معنوي وروحي وألغته من قواميس السلوك اليومي لحياة الانسان وثقافته, بل أجادت السباحة في بحر الشهوات و الغرائز الحيوانية بعنوان التحضر والثقافة والتقدم والعولمة, وهذه هي قيم وركائز الفلسفة المادية, أما في آيدلوجية التربية الإسلامية ونظرته الى الكون والإنسان تقوم على أساس تنمية الجانب الروحي والمعنوي وإشاعة القيم الأخلاقية وجعلها في حالة توازن بينها وبين الجوانب المادية, أي أنها لم تلغ الجانب المادي من حياته بل شذبتها و دأبت على توجيهها وترشيدها بشكل صحيح وسليم: (وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا). هذا هو الأساس التي تقوم عليه نظرة الإسلام في إيجاد موازنة بين عالم الدنيا وعالم الآخرة وبهذا الأسلوب التربوي يكون سبباً في نجاح الإنسان وسعادته في وسط بحر الغرائز والشهوات, فجعلت من الإيمان بالله تعالى القاعدة الواسعة والكبيرة والتي تشكل محور أساس لاهتمامات الأنسان فكرياً وعقائدياً وسلوكياً. وهذه القاعدة في حقيقتها تكون حائلاً ومصداً يمنع ويحجز الإنسان من محاولات التصحر والجفاف الروحي التي تقف عائقاً في طريق الإنسان وكماله المعنوي والروحي, وهنا نشير الى مظاهر تحف بالإنسان فيما لو ابتعد عن منابع الفطرة السليمة: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ), حيث أن لمشكلة الجفاف الروحي مظاهر تظهر بشكل سلوكيات واضحة في حياة الفرد والجماعة وهذه سمة عامه في كل مجتمع يبتعد عن الجوانب الروحية أو يصاب بمرض الجفاف الروحي, فمن هذه المظاهر:
1- اللامبالاة بالقيم المعنوية وإلغاء كل مقدس ومحترم وأنه ليس عند هؤلاء منطقة محرمة في حياتهم بل كل شيء عندهم مباح وبلا قيود.
2- انتهاك المحرمات الدينية , وهذه ظاهرة خطيرة جداً بحيث تحول المنظومة العقائدية والأخلاقية إلى منظومة فارغة في مثل هكذا مجتمع وأمة قد يصابون بمرض الجفاف الروحي وهذا العمل بمثابة الطلقة المميتة التي توجه إليهم وتحولهم الى ركام مادي و مميتة له وحياته هامدة عبارة عن ركام مادي، وأشار الى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: (كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
ـ تتمة:
تكلمنا عن عامل مهم وعنصر مؤثر جداً في سلباً وإيجاباً في قوة وضعف إيمان الإنسان روحياً واستقامته أو انحطاطه لاسمح الله، ألا وهو معرفة الإنسان وعلمه بعقيدته بالله عز وجل وباقي عناصر المنظومة العقائدية. فالمعرفة والعلم تشكل ضمانة قوية للحفاظ على إيمان الإنسان وتدينه بل وزيادته، وعلى خلاف ذلك هو الجهل فإنه يقوم بوظيفة من شأنها إضعاف الجانب الروحي عند الإنسان، لذا نرى أن الأنبياء (عليهم السلام) قد خاطبوا أقوامهم الذين عارضوهم بوصف أنهم قوم يجهلون، أو جاهلون، أو أنهم لايعلمون, وهكذا بقية الصفات التي تكشف تدني مستواهم المعرفي وأنهم قوم لايفكرون وأنهم قد جانبوا ملكة العقل والتفكير والمعرفة, فكان عامل انعدام المعرفة والعلم سبباً في قلة وعيهم وضحالة تفكيرهم فجعلهم يقفون الموقف المتنكر لحقائق العقل
فالجهل هو كل ما يعصى الله به ويكون طريقاً الى العصيان والكفر، وآثاره هو الأفكار الضالة والأعمال السيئة والآداب المذمومة، والقرآن يشير إلى هذه الحقيقة بقوله تعالى: (ولو أننا أنزلنا إليهم الملائكة... أكثرهم يجهلون)، وبناءاً على هذه الحقيقة القرآنية نسجل المعادلة التالية: إن كل غير مؤمن بالله تعالى فهو جاهل, والعكس بالعكس: إن كل من عرف ربه فهو مؤمن ولا يعد من الجاهلين، بحسب المنطق القرآني: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ). وقد وصف أمير المؤمنين (ع) الجاهل بأوصاف عدة منها:
ـ لا عدو أضر من الجهل
ـ لا فقر كالجهل
ـ أعظم المصائب الجهل
ـ أشقى الناس الجاهل
فهذه الصفات وغيرها كثير تكشف عن واقع متدني يعيشه الجاهل وأن هناك آثاراً يتركها الجهل على نفس الإنسان ومن أهم هذه الآثار هو حالة الشقاء التي يعيشها الجاهل وتمرده على القيم الإلهية ويصبح إنساناً يجانب الحق والإيمان، بل أن الجهل قد يحدث حالة الإنقلاب في دين الإنسان وتزلزل عقيدته، وبالتالي يحقق الخسارة الكبيرة في حياته ونكوص في خط علاقته بالله تعالى. لذا نرى أن أتباع الحركات الضالة التي تهدد سلامة الأمن العقائدي في المجتمعات البشرية هم طبقة الجهال منهم، فهم الذين يتبعون هذه الأفكار ويصدقون بها، وبالتالي يكونوا ضحية لجهلهم هذا بأن تسحقهم هذه الحركات وتدفع بهم إلى نار جهنم.
أقرأ ايضاً
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- مراقبة المكالمات في الأجهزة النقالة بين حماية الأمن الشخصي والضرورة الإجرائية - الجزء الأول
- البكاء على الحسين / الجزء الأخير