بقلم: منقذ داغر
في استضافة أخيرة في أحد البرامج الحوارية المعروفة كرر المحاوِر وأحد ضيوفه عبارة (السياسة فن الممكن) مشيدَين بسياسة بعض الأطراف المشاركة في حكومة السيد السوداني التي غيرت خطابها (التحريري) الى خطاب (تبريري) للتواجد العسكري الأمريكي في العراق. قال لي المُحاوِر الذي يمتاز بفطنة وحنكة (هذا ذكاء من الجماعة) فهم يلعبون سياسة. قلت له أنكم تخلطون بين السياسة والفهلوة بسبب تفسيركم الخاطىء لتعريف السياسة وما يعنيه فن الممكن!
فكلمة سياسة مشتقة أصلاً من كلمة politika اليونانية والتي تعني شؤون المدينة. وقد عرفها أرسطو الذي يعدّه كثيرون أبو علم السياسة، بأنها تعزيز وترويج الفضيلة بما يؤدي لمعيشة أفضل للأنسان. وهو يعتقد أنه كما تُعد الأخلاق هي معيار الحكم على الأنسان الجيد، فأن السياسة هي معيار الحكم على الدولة الجيدة. واضح إذاً البون الشاسع بين مفهوم الفهلوة ومفهوم السياسة، فالأولى لا أخلاقية والثانية أخلاقية. هذا لا يعني أن السياسة معيارها الأخلاق والفضيلة، بل يعني أن السياسة لا تعني التجرد من الاخلاق وقبول الرذيلة!
يشير معظم المؤرخين أن بسمارك هو أول من عرّف السياسة بأنها فن الممكن، أو أفضل ما يمكن تحقيقه. وقد أستخدم بايدن هذا التعريف في حملته الأنتخابية الأخيرة. كما وصفت سياسات كثير من القادة الأميركان مثل ريغان وكيسنجر والغربيين مثل تشرشل بأنها سياسات (الممكن). وفي عالمنا العربي غالباً ما كان يشار الى الراحل نوري سعيد والراحل الملك الحسين بأنهما أبناء المدرسة الواقعية في السياسة التي تؤمن بالممكن. هنا يجب التفريق بين مدرسة التفكير الواقعي ومدرسة البراغماتية في السياسة. فعلى الرغم من أوجه التداخل والشبه بين المفهومين بخاصة عند التطبيق الا انهما يختلفان في المبدأ والغاية. فالبراغماتية فلسفة تؤمن بأن قيمة الشيء في مقدار منفعته وهي لا تؤمن بالحقائق المطلقة، وكل شيء نسبي بالنسبة لها. انها لا تؤمن بمبادىء ولا حقائق ثابتة. إنها طريقة حياة تختلف عن الواقعية التي تعني التعامل مع الحقائق على الارض لتحقيق الهدف.
ولتوضيح الأمور أكثر نعود للتعريف الذي يحفظه الجميع عن السياسة (فن الممكن) لنفهم كيف يمكن التعامل معه من منظورين مختلفين تماماً بعكس ما يفهمه كثُر. فحينما نقول أن السياسة هي (فن) فهذا لا يعني أنها ليست حقلاً معرفياً أو ليست علماً، لكي يدلي من هب ودَب بدلوه فيها. الفن هنا يعني أنها لا تخضع لمبادىء العلوم الطبيعية لأن متغيراتها لا يمكن التحكم بها. لذا لا توجد قوانين في السياسة لكن توجد قواعد ومبادىء جرت دراستها وأختُبرت فأعطت نتائج متباينة في ظروف متباينة.
أما الشق الثاني من التعريف وهو الذي يخطىء في تفسير معناه وفهم مغزاه كثيرون فهو كلمة (الممكن). والممكن هنا يعتمد على تفسيره، فهل يعني تقليل مستوى التوقعات أو الطموح والتخلي عن المُعتَقد والمبادىء كما يفعل الان من طالب بخروج الاميركان ومحاربتهم ثم صار يدافع عن وجودهم بحجة الممكن، أم أن الممكن يعني فن القدرة على صنع وبلوغ ذلك الممكن؟! أنه بالضبط كالاختلاف في تفسير الآية الكريمة (لا يكلف الله نفساً الا وسعها). فالتحديديون (الجبريون) يفسرونها بأن قدراتنا محدودة بما خُلقنا عليه، وبالتالي لا نستطيع القيام بكل شيء. أما القدريون فيفسرون (وسعها) بأن الله ما كان ليأمرنا بشيء لولا معرفته أننا نستطيع القيام به. والفرق هائل بين الفهمَين!
أن التبريريين (الجبريين) ممن يبررون تغيير مبادئهم الآن وبعد ان أستلموا السلطة يريدون القول أن الواقع يفرض علينا أن نستجيب للأقوى منا لأن قدراتنا محدودة ونحن مجبرين على التعامل مع القوي وعدم تحديه. أنه نفس منطق معاوية حين خاطب المسلمين قائلا لهم أنا قدركم الذي اختاره الله لكم وانتم مجبرين على التعامل معه!
كنت سأفهم هذا المنطق من قبل البراغماتيين غير المؤدلجين، لكن من الصعب هضمه حين يأتي من المؤدلجين بخاصة الإسلامويين، الذين طالما صدّعوا رؤوسنا بالمبادىء وانتقدوا من قبلهم لتعاملهم مع الاميركان حين كانوا يتحججون أيضاً بقراءتهم للواقع كما يفعل الإسلامويون الان.
أن فن الممكن في السياسة لا يعني الفهلوة. فمن يختار طريقاً وفلسفةً وطريقة (تقليد) في السياسة عليه أن يلتزم بها أو على الأقل لا يأتِ بما كان ينتقد الآخرين عليه. السياسة بلا مبادىء ومحددات تغدو كسوق (الهرج) الذي لا تحدّه ضوابط. هنا يجب التأكيد أن من المقبول أختلاف الضوابط والمبادىء والادوات والافكار في السياسة لكن من غير المقبول عدم وجود تلك الضوابط او المبادىء، او التحايل والتلاعب بها بحجة الواقعية. حينذاك سيفقد الجميع بوصلتهم وتتحول السياسة من فن الممكن الى فن التمكّن بحيث تصبح السلطة، لا رضا الناس وإشباع حاجاتهم، هي الغاية. السياسة هي فن تمكين الساسة من بلوغ الآمال وليس فن تمكينهم من الرقص على الحبال.
أقرأ ايضاً
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- الانتخابات الأمريكية البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الاعظم
- ما دلالات الضربة الإسرائيلية لإيران؟