بقلم: عبد المنعم الأعسم
كان زلزال تشرين العام 2019 تمريناً لولادة الجمهورية الثالثة بعد ان ضرب معادلات حكم ما بعد الاحتلال وسقوط الدكتاتورية، إذْ رسمت دماء مئات الشهداء وآلاف المصابين مسار سقوط جمهورية الموز وتخطيط ملامح الجمهورية الجديدة من خلال الشعار المركزي الذي وحّد ساحات الاحتجاج:
"نريد وطن" تعبيرا عن وعي الارادة الشعبية، وقطاع الشباب حصرا، لموجبات وحقيقة انتهاء الوظيفة التاريخية لمنظومة الحكم القائمة على المحاصصة وسطوة السلاح المنفلت واحتكار الامتيازات من قبل حلقة صغيرة تغولت بعد ان حولت الانتخابات والسلطة التشريعية والقضاء الى هراوة لمعاقبة الشعب الساخط على الاوضاع.
في حساب التاريخ الحديث للدولة العراقية كانت الجمهورية الاولى التي قامت العام 1958 قد تعثرت بعوامل ضعفها واضطراب وصراع واحتراب قياداتها مما اوقعها فريسة انقلاب دموي في 8 شباط 1963 جرّ الويلات والحروب والشناعات على مرحلة كاملة من عمر العراق امتدت لأربعة عقود عاصفة وانتهت الى الهزيمة المخزية للقيادة تحت مجنزرات القوات الاجنبية الغازية وقيام الجمهورية الثانية، الديمقراطية من حيث الشكل وبعض التشريعات، لكنها الضعيفة والفاشلة من حيث الواقع على الارض، وسرعان ما اصبحت الدولة الجديدة الفتية ساحة لنشاط ارهابي مسلح خطير هدد استقلالها وامن المنطقة والعالم، وافرزت المرحلة طبقة سياسية من احزاب دينية وقبلية فاسدة تمسك بالاقدار وتتحكم بمعادلات المستقبل.
احتجاجات تشرين، بشجاعة ملايينها وبأس الشبيبة من النساء والرجال، اوقفت مجرى الاحداث عند هامش الذروة التي بلغتها الجمهورية الثانية الفاشلة لتنحدر وتتآكل، ثم يبرز الى العلن هزالها ومأزقها وانهيار تحالفاتها وبيوتاتها السياسية وسط سلسلة من الصراعات والحروب الفئوية والتكالب على النفوذ وانتشار السلاح والمليشيات، واستقر المشهد عند العزلة القاتلة للمتنفذين التي تجسدت بمقاطعة 18 مليون من اصحاب حق التصويت في انتخابات العام 2021، ثم فشل تشكيل الحكومة بعد مرور عام على اعلان النتائج، برغم العملية الجراحية الوقائية الالتفافية للقضاء.
ولسبب يتعلق بوقوف كل من طهران وواشنطن (اللاعبان النافذان في الشأن العراقي) الى جانب نظام المحاصصة والفساد المترنح، ودعمهما له كي لا يسقط بيد الشعب الساخط، واستخدام القوة المميتة والبطش المفرط من قبل السلطة الغاشمة لكسر شوكة المحتجين واغراق ساحات الاحتجاج ببرك الدماء، وأيضا، بسبب بعض مشكلات التعبئة والقيادة والادارة السياسية للحركة الاحتجاجية، فان هزيمة جمهورية الموز وولادة الجمهورية الثالثة، العادلة، تأخر في الزمان.. تأخر فقط.. شأن المخاضات العسيرة للثورات التي شهدها العالم، فالحركة الاحتجاجية لم تتراجع طوال ثلاث سنوات بمشاركة الملايين من العاطلين عن العمل والمهمشين والنساء الارامل والخريجين وسكان العشوائيات والاحياء الفقيرة والنخب المختلفة، فيما قطبا المواجهة لا يزالان في موقعهما من خارطة الصراع.. المحتجون الى جمهورية ثالثة، والفاسدون الى خيار دولة الخراب والنهب والمحاصصة.
القطب الاول يستقوي اليوم وينتصر، والثاني يتخبط.. وينهزم.
استدراك:
"سُئل بعض شيوخ بني امية عقيب زوال حكمهم: ما كان سبب زوال حكمكم؟ قال: إنا شُغلنا بلذاتنا ومصالحنا فظلمنا رعيتنا، فيئسوا من انصافنا، وتمنّوا الراحة منّا..".
مروج الذهب
أقرأ ايضاً
- الحوكمة والعين الثالثة للدولة
- ليلة البحث عن نائب رئيس الجمهورية !!
- كيف قبل الفتح ودولة القانون المدعومين من الجمهورية بالتحالف مع الخنجر ؟