بقلم: نزار حيدر
إِنَّ أَوَّل مَن وظَّفَ الإِرهاب بالإِتِّجار بالمُقدَّس لشرعنةِ سُلطتهِم هُم الأَمويُّونَ عندما وقفَ أَحدهُم في مجلسِ الطَّاغية مُعاوية شاهِراً سيفهُ مُخاطِباً [الشَّعب] قائلاً؛ أَميرُ المُؤمنينَ هذا [وأَشارَ إِلى مُعاوية] فإِن هلكَ فهذا [وأَشار إِلى يزيد] ومن أَبى فهذا [وأَشارَ إِلى سَيفهِ]!.
وبذلكَ يكونُ الأَمويُّونَ قد أَسَّسُوا لأَربعِ قواعِدَ خطيرةٍ جدّاً قلبت المفاهيم السماويَّة وغيَّرت المُعادلات الإِجتماعيَّة، وهي التي أَنتجت علاقةِ النِّفاق في الإِرتباطِ بينَ الحاكمِ والرَّعيَّةِ؛
الأُولى؛ سياسةُ الإِكراه والله تعالى يقولُ {لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ ۚ}.
الثَّانية؛ سياسةُ مُصادرة حريَّة الإِختيار التي تتجلى بحُريَّة التَّعبير والله تعالى يقولُ {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَٰرِهُونَ}.
الثَّالثة؛ سياسةُ توظيفِ المُقدَّس [الدِّين] في خدمةِ الحاكِم الظَّالم والله تعالى يقولُ {لَّا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}.
الرَّابعة؛ سياسةُ الإِرهاب والتَّخويف والإِرعاب والقَسوة لرسمِ الخطُوط الحمراء حولَ كُلَّ ما يتضرَّر منهُ الحاكِم الظَّالم، والله تعالى يقولُ {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُۥ}.
هذا المنهجُ المُنحرف هو الذي ظلَّ يحكُم المُسلمين على الرَّغمِ من اختلافِ مذاهبهِم ومشاربهِم، مع بعضِ الإِختلافِ في النِّسبةِ، فلقد تجلَّى في مدارسَ فكريَّةٍ وفقهيَّةٍ وسياسيَّةٍ عدَّة حتَّى وصل إِلينا اليَوم بما باتَ يُعرف بالإِسلام السِّياسي، السنِّي منهُ والشِّيعي!.
فتارةً يُتاجِرُ أَصحابهُ بالمُقدَّس لإِرهابِ النَّاسِ وإِرعابهِم وتكميمِ أَفواههِم فلا يُواجهُونَ الحاكِم الظَّالم ولو بشِقِّ كلمةٍ بذريعةِ أَنَّهُ [ظِلُّ الله في الأَرضِ] فهذا [عبدُ الله المُؤمن] وذاكَ [أَميرُ المُؤمنينَ] وذلكَ [وليُّ الأَمرِ] والرَّابع [سيِّدي ومَولاي] وهكذا!.
لقد ظنَّ كثيرُونَ أَنَّ استشهاد أَميرِ المُؤمنينَ (ع) سيُوطِّئ لسُلطةِ الطَّليق مُعاوية وبذلك لم يعُد بحاجةٍ لمُمارسةِ التَّضليل والدَّجل وتوظيفِ المُقدَّس والإِرهاب باسمِ الدِّين لمُمارسةِ الحُكم وقيادةِ الدَّولة! إِلَّا أَنَّ العكس هو الصَّحيح فلقد استمرَّت عمليَّات القتل والإِنتقام من شيعةِ عليٍّ وبِكُلِّ الطُّرُق والوسائِل! بل زادَ الحكمُ شراسةً واستكلاباً!.
كذلكَ ظنَّ كثيرُونَ أَنَّ تنازل الحَسن السِّبط (ع) عن السُّلطةِ لصالحِ الطَّاغية الطَّليق مُعاوية سيُهدِّأ النُّفُوس ويحقن الدِّماء ويبسط الأَمن في ربوعِ البلادِ! إِلَّا أَنَّ عمليَّات الإِغتيال التي استمرَّت، بعد أَن وطَّأَ الطَّاغية الظُّرُوف الموضوعيَّة لسُلطتهِ الإِستبداديَّة، تُشيرُ إِلى العكسِ من ذلكَ!.
كذلكَ الذينَ ظنُّوا أَنَّ الحُسين السِّبط (ع) هو السَّبب في إِثارةِ الظُّرُوف الإِستثنائيَّة التي مرَّت بالأُمَّة منذُ لحظة هَلاك الطَّاغية مُعاوية واعتلاء ابنهِ يَزيد سدَّة الحُكم! فإِذا قُتِلَ فستستتِبَّ الأُمور ويهدأ المُجتمع وتستقرَّ السُّلطة التي ستتفرَّغ للبناءِ والإِعمارِ ونشرِ العدلِ والسَّلامِ وتحقيقِ السِّلمِ المُجتمعي وحمايةِ السِّيادةِ والشَّرعيَّةِ! إِلَّا أَنَّ ما شهدتهُ مكَّة المُكرَّمة والمدينة المُنوَّرة من إِستباحةٍ كامِلةٍ للدَّم والعِرض والمُقدَّساتِ بذريعةِ الدِّفاع عن الدِّينِ والشَّرعيَّة يُناقض تصوُّراتهُم!.
لِماذا؟!.
لماذا جاءت كُلَّ تلكَ التصوُّرات على النَّقيضِ من الواقعِ المُر الذي شهدتهُ الأُمَّة؟!.
برأيي فإِنَّ السَّبب الأَهم وراءَ كُلَّ ذلكَ هو طبيعة العقليَّة التي كانت تقف وراءَ السُّلطة، فالذين كانُوا يُقاتلُونَ من أَجلِها لم يكونُوا رِجال دَولة فإِذا أَزاحوا [المُتمرِّدينَ] على الشرعيَّة، كما يصِفُونهُم، عملُوا على استتبابِ الأُمور للتفرُّغِ للبناءِ والإِعمارِ، أَبداً! إِنَّهم رجالُ سُلطةٍ فكُلُّ ما يمارسونهُ من قتلٍ وذبحٍ وتوظيفٍ للمُقدَّسِ وغاراتٍ وإِراقةٍ للدِّماءِ وانتهاكٍ للعِرضِ والشَّرف، إِنَّ كُلَّ ذلكَ ليسَ من أَجلِ إِدارةِ دَولةٍ يرَونَ أَنفسهُم أَولى بها وأَقدر على إِدارتِها لبسطِ العدلِ! وإِنَّما للوصُولِ إِلى السُّلطةِ فحسْب للسَّيطرةِ على مُقدِّراتِ البلاد وإِخضاع العِباد.
ولذلكَ لم يغيِّر مقتل أَميرُ المُؤمنينَ (ع) شيئاً من حقيقةِ وواقعِ السُّلطةِ الأَمويَّةِ.
كما أَنَّ ترك الحسَن السِّبط (ع) للسُّلطةِ إِلى مُعاوية ثُمَّ مقتل الحُسين السِّبط (ع) إِنَّ كُلَّ ذلكَ لم يُغيِّر من واقعِ سُلطةِ الأَمويِّينَ أَيَّ شيءٍ! فاستمرَّت نفس السِّياسات وبنفسِ الأَدوات ورُبَّما أَشد وأَقسى!.
وهكذا هوَ الحالُ اليَوم، فما تمرُّ به البلاد هو صراعٌ على السُّلطةِ من أَجلِ السُّلطةِ وليسَ من أَجلِ الدَّولة! ولهذا السَّبب فإِنَّ كُلَّ تغييرٍ تشهدهُ البلاد لن يُغيِّر من الواقعِ شيئاً! لأَنَّ السُّلطويُّون هدفهُم السُّلطة ومغانمَها وامتيازاتَها وامكانيَّاتها، كما أَنَّ الثوَّار والمُعارضين هدفهُم السُّلطة ومَلاحِقها!.
ولعلَّ في تغييرِ عام ٢٠٠٣ خيرُ دليلٍ وشاهدٍ على هذهِ الحقيقةِ، فمَن ظنَّ بهِ الشَّعبُ خيراً تبيَّنَ أَنَّهُ لا يختلف عن النِّظام المُستبد في شيءٍ باستثناءِ الهويَّة والزَّي والشِّعارات والخلفيَّة [الأَيديولوجيَّة].
إِنَّ كُلَّ مَن يُقاتل من أَجلِ السُّلطة [يعتقد] بأَنَّها [قميصٌ قمَّصلها الله تعالى لهُ] فكيفَ يجوزُ لهُ خلعهُ؟! وكيفَ يجوزُ لأَحدٍ [سِرقتهِ] منهُ؟!.
وأَكثرُ من هذا عندما يدَّعي [السُّلطوي الدجَّال] أَنَّهُ رأى رسولَ الله (ص) في المنامِ يوصيهِ بعدمِ خلعِ [قميص الله] عنهُ حتَّى إِذا سالت الدِّماء أَنهاراً وانتُهكت الأَعراض واحترقَ الأَخضر واليابس وجفَّ الضَّرعُ!.
لقد حدثَّنا القُرآن الكريم عن صورتَينِ مُتقابلتَينِ هُما نموذجٌ للحالِ الذي يتكرَّر دائماً في واقعِنا ومن خلالِهِما يُمكنُنا استيعابِ جَوهرِ الصِّراعِ وبالتَّالي ما يُفرِزُ من واقعٍ مريرٍ!.
يقولُ تعالى {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوٓاْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِٱلْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ ٱلْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُۥ بَسْطَةً فِى ٱلْعِلْمِ وَٱلْجِسْمِ ۖ وَٱللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُۥ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ}.
فلو كانَ هدفُ الجماعة هو مرضاةُ الله تعالى من أَجلِ السَّعي لخدمةِ الإِنسان وتحريرهِ من الجبتِ والطَّاغوت والأَغلال التي تكبَّل بها المُجتمع، لما جادلُوا نبيَّ الله في المُواصفات المطلُوبة للزَّعامة! ولكن ولأَنَّ أَعيُنهم كانت تدُورُ على السُّلطةِ والمُلك لذلكَ احتجُّوا على قرارِ السَّماء وكادُوا أَن يرفضُوهُ لولا أَنَّ الله تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}.
واليَوم عندما يمتلكُ السلطويُّونَ السِّلاح والمال والإِعلام والعِلاقات الإِقليميَّة والدوليَّة وشبكات الذُّباب الأَليكتروني! فكيفَ يُمكننا تحقيق السِّلم فيما بينهِم وكلُّهم يُتاجرُونَ بحُبِّ الحُسين السِّبط (ع) وبالولاءِ لأَهلِ البيتِ (ع)؟!.
كلُّهم يتقاتلُونَ من أَجلِ السُّلطةِ ونفوذها وامتيازاتَها، فلم تكُن السُّلطة التي يُريقُونَ الدَّم من أَجلِ السَّيطرةِ عليها لإِقامةِ الحقِّ والعدلِ وإِنَّما للتسلُّطِ على رقابِ النَّاسِ! ومن أَجلِ المزيدِ من اللُّصوصيَّة.