- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
المؤسسات الدولية وتدمير الدول وهدم الاخلاق والقيم – الجزء العشرون والاخير
بقلم: د. عبد المطلب محمد
أمثلة واقعية لفشل صندوق النقد الدولي
لم تبرهن برامج صندوق النقد الدولي ايجاد أي حلول كفوءة في معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي واجهتها بعض الدول التي استعانت بقروض الصندوق كاليونان, الارجنتين, تونس, زامبيا, غانا, البرازيل وغيرها من الدول. وفي مسعى لبيان الاضرار الاقتصادية والاجتماعية لقروض صندوق النقد الدولي، سوف نستعرض هنا تجارب عدد من الدول التي اضطرت إلى اللجوء للصندوق لمعالجة أزمات مالية واقتصادية خانقة أدت في النهاية الى تدهور اقتصادي اكثر صعوبة من الفترة التي سبقت القرض.
فقد وقعت دول في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا ضحية لتلاعب خبراء صندوق النقد الدولي وتسريب تقارير عن تلك الدول لتبدو أقل إستقرارا وبالتالي هروب رأسمال الأموال من أسواقها وانهيار عملتها الوطنية وازدياد التضخم وانتشار الفقر والبطالة وأصبحت الحكومة عاجزة عن تأمين رواتب العاملين لديها وهنا يأتي الصندوق الدولي ليمثل دور المنقذ ويفرض شروطه المجحفة على الدولة التي تحتاج الى إنقاذ لإقراضها ولكن لايمكنها الحصول على أي قرض مالي من دون تنفيذ شروط البنك ومن هذه الشروط المتكررة هي تقليص الوظائف في القطاع الحكومي ورفع الأسعار وفرض الضرائب وتحرير الأسواق والخصخصة ببيع شركات ومؤسسات حكومية ورهن ثروات الدولة الطبيعية للشركات الأجنبية. ويصل تدخل البنك والصندوق احيانا ليتحكم في سيادة الدولة كما حصل في اليونان حيث أدى إلى إعادة هيكلة القوانين التشريعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لتنسجم مع عولمة الاستعمار الجديد.
وقعت الإكوادور اتفاقية مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة (4.2) مليار دولار لمدة (3) سنوات. كانت شروط الصندوق تتمثل بتقليل عدد الموظفين في القطاع العام ورفع الضرائب وخفض الانفاق العام وتقليص الموازنة (6%) نسبة إلى الناتج المحلي. وبعد تطبيق اجراءات وشروط الصندوق كانت النتيجة ارتفاع خط الفقر من (50%) إلى (70%) ونسبة البطالة من (15%) إلى (70%) إضافة إلى ارتفاع الدين العام إلى (16) مليار دولار، وتخصيص (75%) من ميزانية الدولة لسداد الديون.
أما الهدف الذي تحقق، فهو إغراق الإكوادور في الديون لاستغلال ثرواتها، وخصوصاً بعد ثبوت توفر مخزون كبير من النفط الخام في غابات الامزون لديها ووجود احتياطي تؤكد الدراسات أنه منافس من حيث الكمية لنفط الشرق الأوسط، ويشكل أحد بدائله، بحيث أصبحت حصة الشركات الأميركية اليوم تعادل (75) دولاراً مقابل (25) دولار للاكوادور تذهب (75%) منها لسداد الديون الخارجية والمصروفات الحكومية وللدفاع ويتبقى (2.5) دولار فقط للصحة والتعليم والبرامج الاخرى التي تستهدف الفقراء.
لقد جاء صندوق النقد الدولي إلى تنزانيا في عام 1985 بهدف تحويل الدولة المثقلة بالديون إلى دولة أقتصادية مهمة تساهم في الاقتصاد العالمي. وكانت الخطوات الأولى المتخذة هي تقليص القيود التجارية وتفعيل التجارة الحرة وتقليل البرامج الحكومية المخصصة لدعم الطبقات الاجتماعية الضعيفة وخصخصة الشركات الحكومية وبيع الصناعات المملوكة للدولة. بحلول عام 2000 وبسبب ضعف المنظومة الصحية ازداد معدل مرض نقص المناعة (الإيدز) في البلاد بنسبة تصل إلى (8%) وانخفض معدل التحاق الطلبة بالمدارس بنسبة (80) في المائة. ونتيجة لذلك، ارتفع معدل الأمية في البلاد بنسبة (50%) تقريبا. وفي الفترة من عام 1985 إلى عام 2000، انخفض دخل الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من (309) دولار إلى (210) دولار.
ومثال آخر يذكره د. شريف المصري في مقالة له على موقع (PSI) هو ما حدث ويحدث حاليا في لبنان الشقيق الذي استمر بعد انتهاء الحرب الأهلية الدامية باتباع نفس سياسته الاقتصادية الليبرالية. فقد قفزت ديونه من عام 1993 حتى عام 2021 من حوالي (7) مليار دولار إلى (89) مليار دولار. وقد تمحورت جميع شروط صندوق النقد في لبنان وغيرها من الدول العربية على الخصخصة وتقليص القطاع العام وتخفيض الإنفاق الحكومي وكف يد الدولة على صعيد وظيفتها في رعاية المجتمع وتأمين حقوق جميع فئاته لصالح تكريس مصالح القطاع الخاص التي أدت إلى انهيار منظومة الخدمات الاجتماعية.
هذه التجارب المأساوية التي حدثت في العديد من الدول وأدت لإفلاسها وادخالها في مصاعب اقتصادية واجتماعية نتيجة تراكم الديون ونتيجة تطبيق اجراءات وسياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لا تبتعد كثيرا عما يحدث في العراق منذ عدة سنوات. فقد مضت سنوات عديدة من دون توفر وظائف في القطاع العام رغم احالة اربعة مواليد على التقاعد في عام 2019 من قبل الدولة والشروع بالخصخصة في العديد من القطاعات في المجال الصناعي والصحي والتعليمي والاتصالات والكهرباء والنقل وغيرها بحيث اصبح عدد المستشفيات والجامعات والمدارس الابتدائية والثانوية الخاصة والاهلية ينافس عددها في القطاع العام وتم تقليص الخدمات المقدمة للطبقات الفقيرة والمعدمة وخفض سن الاحالة على التقاعد وضعف القطاع الصناعي والزراعي وضعف تدخل الدولة في الدورة الاقتصادية والاتجاه نحو السوق التجارية الحرة وأنشاء المصارف الاهلية وظهور الشركات الاستثمارية الكبرى في مشاريع استهلاكية لا تنفع الاقتصاد الوطني (بناء الاسواق التجارية الكبرى, مدن الالعاب) اضافة الى خفض قيمة الدينار العراقي مما أدى الى ارتفاع الاسعار في الاسواق المحلية وانخفاض مستوى المعيشة والدخل وزيادة عدد الفقراء وما ينتج عن ذلك من انتشار للجريمة والمخدرات والمشاكل الاجتماعية العديدة.
لقد كانت هناك تجارب أخرى حاولت الإفلات من شروط واجراءات صندوق النقد الدولي المدمرة مارستها عدد من الدول مثل تركيا وماليزيا وإندونيسيا بنسب متفاوتة، إلا أن هناك إجماع على ضرورة تجنب الاقتراض من البنك والصندوق الدولي التي تغري الدول في البداية فاذا ما تمكنت من الامساك بالاقتصاد فرضت شروطها المجحفة التي تعد بمثابة احتلال اقتصادي مكتمل الأركان يترتب عليه عموما حدوث تباطؤ حاد في النمو الاقتصادي، وارتفاع في نسبة البطالة وانخفاض في مستويات الدخل.
وكما قال وزير الخارجية الأمريكي الأسبق )هنري كسنجر(, رغم تفكيره الرأسمالي البحت, في مقال نشرته صحيفة (انترناشيونال هيرالد تريبيون) بتاريخ الخامس من تشرين الاول عام 1998 (ان صندوق النقد الدولي المؤسسة الرئيسية المناط بها مواجهة الأزمة يساهم في حالات عديدة في تفاقم حالة عدم الاستقرار السياسي. والصندوق الذي أجبرته أزمة العملات على تولي مهام لم يخلق أصلاً لها فشل فشلاً ذريعاً في ادراك الأثر السياسي لأفعاله. وباسم معتقد السوق الحر يسعى الصندوق دوماً وبجرة قلم الى إزالة أي ضعف في النظام الاقتصادي للدول المتأثرة بغض النظر عما اذا كانت هذه العوامل هي التي تسببت في الأزمة أم لا.
ومثل الطبيب الذي يصف نوعاً واحداً من الدواء لأي نوع من الأمراض فإن علاج الصندوق الذي لايتغير يطالب باجراءات التقشف وأسعار الفائدة المرتفعة لمنع هروب رأس المال وكذلك خفض قيمة العملة للحد من الواردات وتشجيع الصادرات. والنتيجة هي انخفاض هائل في مستوى المعيشة وارتفاع معدلات البطالة بأرقام كبيرة ومزيد من الصعوبات التي تضعف المؤسسات السياسية الضرورية لتنفيذ برامج الصندوق).
أقرأ ايضاً
- الانتخابات الأمريكية البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الاعظم
- ماذا بعد لبنان / الجزء الأخير
- من يوقف خروقات هذا الكيان للقانون الدولي؟