بقلم: حسين فرحان
ان مغادرة سجلات تدوين الحضور والغياب للموظفين نحو التكنلوجيا المتقدمة (البصمة) أمر اختلفت الآراء في تقييم جدواه، فقد يرى البعض ان الحكومة أزاحت عن كاهل الموظف المسؤول عن هذه السجلات هم رسم خطوطها الافقية والعمودية مع بداية كل شهر وظيفي.. وأزاحت عنه هم حمله الى السيد المدير وهو مليء بالتواقيع المزخرفة التي تكاد أن تكون متشابهة بسبب القوس الذي يعلو خربشاتها.. وأزاحت عنه هم الاعذار والاعتذار والوساطات والتدخلات والمحسوبيات والمظلوميات، فالطفل مريض، والشارع مزدحم، والحجي (تخربط)، والذهاب لمدرسة الاولاد وغيرها من اعذار كانت تضعه أمام حرج شديد قد يدفع به في بعض الاحيان الى وضع توقيعه أمام اسم هذا المعتذر عن الحضور (بالانابة)، ولكن بشكل آخر يحاول فيه –قدر الامكان- ان يكون مقاربا للتوقيع الاصلي.
اتخذت البصمة شكلا من اشكال السلطة القمعية في نظر الكثير من الموظفين، بل اعتبرها البعض تعسفا حكوميا لا يراعي الظرف العام للبلد في ظل وجود أزمات كثيرة لم تتخذ الجهات المعنية بحقها اي اجراء ولم تضع لها أي حل..
أروقة الدوائر الحكومية وبمجرد اتخاذ جهاز الصمة الالكترونية موقعه على جدران المداخل، تشهد جدلا واسعا تطغى فيه لغة التذمر والاعتراض، يصحبها استعراض لمشاكل البلد وفي مقدمتها الواقع الخدمي.
- زحام شديد.. ويبدأ كل موظف ببيان وقت خروجه من منزله لغاية وصوله لدائرته مع عرض لاوقات طويلة تستهلك ساعات طويلة، والحقيقة أنها أمثلة تستحق التأمل فيها، فمن غير المنطقي أن تشكل رحلة الذهاب الى العمل والعودة منه هما وعذابا يوميا للكثير من هؤلاء الموظفين وان كان البعض منهم يمتلك سيارة تقله.
- الوضع الامني والمتغيرات السياسية.. فمع حدوث ارباك معين في هذه الجوانب تظهر بوادر ذلك على شكل حواجز امنية أو قطع لبعض الطرق.. في مثل هذه الحالة سيزداد الوضع سوءا فيجتمع الروتين اليومي مع هذه الاحداث الطارئة.
- الاولاد والمدارس.. في أغلب المدارس الابتدائية والمتوسطة والتي لا تتناسب اعدادها مع الواقع السكاني يكون الدوام فيها على وجبات ونوبات قد تصل في البعض منها الى ثلاث.. هنا يقع الموظف الذي لديه ابناء وبنات في عدة مدارس في مأزق وحرج شديد بين وقت دوامه الرسمي ودوام ابنائه..
- الجائحة.. والتقلبات المناخية (الحر الشديد.. العواصف الترابية.. اغلاق الشوارع بسبب الامطار) وغيرها مما تشهده البلاد في كل عام مع ضعف واضح في الاداء الحكومي لوضع حلول مناسبة للتخفيف عن كاهل الناس في ظل هذه الظروف.
- الواقع الوظيفي ونسبة ما ينتجه الموظف العراقي في ظل سياسة الاستهلاك والاستيراد وبقاء الكثير من دوائر الدولة على حالها يرزح تحت اسقفها الالاف من الموظفين يحتسون الشاي ويدخنون السكائر و(يتعاركون) اثناء تناول مواضيع السياسة وكرة القدم واستعراض محتويات الفيس وتويتر، فهم دون عمل يذكر أو انتاج يوازي ما يتقاضونه من رواتب.. فما الفائدة من تواجدهم بنسب مئوية كاملة.. يقترح البعض أن يكون دوامهم بوجبتين تتقاسمان أيام الشهر، ويرى هذا البعض أن نسبة النصف ستسهم في التخفيف من الزحام الصباحي والمسائي (أوقات الذروة).
- يرى البعض الآخر أن الاهتمام ب (البصمة) وترسيخ حضورها أمر ثانوي مع وجود حاجة ماسة لتشريعات جديدة تنهض بالواقع الوظيفي وبالبنية التحتية للكثير من دوائر الدولة، فهناك أولويات ينبغي الالتفات اليها لجعل هذا الموظف انسانا منتجا فتعيد له ثقته بنفسه وبتخصصه، وتشعره بأنه شخص قادر على العطاء شأنه بذلك شأن سائر الموظفين في العالم، وأن تركه يردد شعار: (اشطب يوما) أمر لا بد من النظر فيه..
- البعض يرى أنه بحاجة الى عمل اضافي مع عدم التفات الحكومة لمناسبة ما يتقاضاه من راتب أمام الغلاء الفاحش، فلو كان الراتب مجزيا للكثير من الفئات انتفت الحاجة الى هذا العمل الاضافي، وفسح المجال لاشخاص عاطلين عن العمل للقيام به.. وقد كان للقروض الحكومية المجحفة حضورها في الجدل حول موضوع (البصمة) مع ما يثقل كاهلهم من استقطاعات كبيرة وفوائد تشعرهم بأنهم من سكان قارات أخرى!! فأين اختفى التخطيط؟
الكل متفق تقريبا أن البصمة مع وجود هذه المشاكل الحياتية المهمة لن تضيف شيئا للواقع الوظيفي، وأن الوضع الراهن المليء باللاحلول لن يكون أفضل حالا فيما لو تحكمت هذه الاجهزة بكل ما فيها من تقنيات وتقارير بتنظيم دخول الموظفين ومغادرتهم، وقد تبرز محاولات للالتفاف على هذه التقنيات ولا تفسير لها سوى أن التمرد سيكون السمة البارزة أمام اجراء حكومي يركز –وبشدة- على مسألة الحضور والغياب، ولا ينظر للموظف الحكومي بعين أخرى ترى أن من ابسط حقوقه أن يكون سلم الرواتب عادلا، وتكون دائرته بحلة جميلة تناسب مكانته ولا تتركه قابعا بين الغبار والاوساخ والبنايات المهدمة القديمة الخالية من ابسط شروط الصحة والسلامة والملائمة لقضاءه اوقاتا طويلة دون أن يعاني من الحر أو البرد أو تكدس المراجعين فوق نافذته الوحيدة الخانقة، مع غياب واضح للذائقة الجمالية في عقول المسؤولين الذين لا هم لهم سوى ممارسة السلطة والعناية بمفردات تافهة كالسيارة الفارهة التي يقودها سائق شخصي والدخول والخروج برفقة حارس شخصي، والجلوس على كرسي دوار، وشعور بالغبطة لسماع القاب الاستاذية والتمتع باجواء السكريتارية ورائحة القهوة والايفادات خارج القطر واللقاء بالوفود، بينما تصنف الدوائر التي يشرف عليها بأنها لا تصلح للاستخدام البشري فهي جحيم للمواطن الذي يراجعها وسعير للموظف فيها..
أن على الحكومة أن تنظر بواقعية واهتمام لتاريخ هؤلاء الموظفين فان اغلبهم قد نالوا شهادات محترمة في مجالات تخصصهم المختلفة، فهي مطالبة بزجهم في مجالات العمل التي تلائم تخصصهم وتفتح لهم افق ممارسته بانجاز مشاريع جديدة تحرك بها العجلات الساكنة منذ عقود.. فالموظف العراقي ليس كما يظن به من كونه عالة وبطالة مقنعة أو اداة لممارسة الفساد المالي والاداري، نعم هناك من اساء وتعاطى الرشوة وابتز الناس واساء لسمعة الوظيفة، لكن ذلك لم يحدث الا بسبب تدخل السياسة في استيزار الشخص غير المناسب وجعل الادارات العامة بيد اناس كان للمحاصصة الحزبية الدور الاكبر في تسنمهم لهذه المناصب، فاقتضت ضرورات بقائهم أن يغضوا الطرف عن الكثير من الموبقات الادارية فكانت الحلول الرقابية شبه منعدمة مع تصاعد وتيرة المنافع والارباح وكثرة الروافد التي تدر بالنفع عليهم من خلال شبكات متكاملة تستنزف المواطن من جهة وتسيء لسمعة الموظف العراقي من جهة أخرى.
خلاصة القول أن البصمة التي تلزم الموظف بالحضور في وقت معين والمغادرة في وقت معين آخر تعد ترفا وزيادة لا داعي لها مع وجود الحاجة الملحة لمتطلبات اخرى أكثر أهمية، فمتى ما أشعرتم الموظف العراقي بأنه مواطن محترم وله مكانته فسيكون هو أول المبادرين للحضور لدائرته حتى قبل موعد (البصمة) لأنه سيكون انسانا بالمعنى الذي لم يشعر به لغاية اليوم.
أقرأ ايضاً
- الرزق الحلال... آثاره بركاته خيراته
- نتائج التسريبات.. في الفضائيات قبل التحقيقات!
- القرآن وأوعية القلوب.. الشباب أنموذجاً