- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
التغير المناخي قضية أمن قومي و بيئي
بقلم: د. جيهان بابان
يتفق جميع العلماء ان لم يكن اغلبهم على أن التغير المناخي هو أكبر التحديات التي تواجه البشرية في هذا القرن و على ضوء التعامل معها سيتحدد مستقبل كوكب الأرض و مصير الأنسان و كافة المخلوقات و هو موضوع ذو أبعاد سياسية و أقتصادية و أجتماعية و صحية و ثقافية و أخلاقية و تصب جميعها في ضمان الأمن الوطني للبلدان وعلى وجه الخصوص الأمن المائي و الغذائي و الصحي.
وقد وفرت البحوث الجيولوجية و دراسة النماذج الجليدية و ترسبات الكهوف و حلقات الأشجار معطيات عن حالة المناخ خلال ملايين السنوات الماضية و تحول جو الأرض من العصر الجليدي الى دافئ خلال 4000 سنة الأخيرة بسبب تصاعد درجات الحرارة و أرتفاع مستوى سطح البحر و زيادة غاز ثاني أوكسيد الكاربون بنسبة 33% و تضاعف نسب غاز الميثان مرتين ومع ذلك كانت مؤشرات تغير المناخ آنذاك أقل كثيرآ عما عليه الأن بسبب تفاقم ظاهرة الأحتباس الحراري والذي يعني أرتفاع معدلات حرارة الهواء الموجود في الطبقة السفلى من سطح الأرض بسبب احتباس حرارة الشمس في الغلاف الجوي بعد دخولها اليه نتيجة أمتصاص غازات الغلاف الجوي كثاني اوكسيد الكاربون لطاقة الشمس مما يؤدي الى ارتفاع درجة حرارة الأرض. وعلى الرغم من وجود أسباب طبيعية و لكن يبقى العامل الأهم هو النشاط البشري خلال 150 سنة الماضية نتيجة أستخدام الطاقة الأحفورية مثل الفحم و النفط و الغاز كمصدر للطاقة لتحقيق التطور الصناعي وأهم مصادر أنبعاث غاز ثاني أوكسيد الكاربون و أيضآ أستخدام البنزين في وسائط النقل و مولدات الكهرباء او الفحم لتدفئة البيوت او قطع الأشجار وتجريف الغابات و جميعها مازالت مستمرة. أما مصدر انبعاثات غاز الميثان فمصدرها مزارع الأرز وتربية البقر ومطامر النفايات. كما و يعتبر أستخدام مركبات الكلوروفلوروكربون «Chlorofluorocarbons (CFCs)» هو المسؤول عن تأكل طبقة الأوزون بينما مصدر اوكسيد النيتروجين هي من الأسمدة وغيرها من الكيميائيات التي تستخدم في القطاع الزراعي . ومن الجدير بالذكر ان زراعة الأرز سلاح ذو حدين فهو مادة أساسية في التغذية البشرية و ملوث كبير للبيئة بسبب إطلاق غاز الميثان و التي يمكن تقليلها عبر التحول إلى طرق الزراعة الحديثة الذي يقلل من هدر الماء و الأسمدة الطبيعية, ويقدر مجلس المناخ الدولي أن ضرر غاز الميثان على البيئة يفوق تأثير غاز ثاني أوكسيد الكربون بـ21 مرة .
كل هذه جميعا تسبب زيادة انبعاثات الغازات الدفيئة و تركزها في الغلاف الجوي (تسمى بالغازات الدفيئة لأنها تمتص الموجات الطويلة “ الأشعة تحت الحمراء “ و ترفع من درجة حرارة الغلاف الجوي وأهمها غاز ثاني أوكسيد الكاربون و الميثان و أوكسيد النيتروجين) و الذي أدى الى زيادة حرارة الأرض 1.1 درجة مئوية مقارنة بالعصر ما قبل الصناعي و على الأكثر ستزيد لتصل الى 1.5 درجة مئوية بحلول عام 2030.
ولا يعني ارتفاع درجة حرارة الأرض ان جميع مناطق العالم ستصبح اكبر دفئا حيث لا يتم ذلك بنفس الدرجة في كل مكان بل هو دلالة على متوسط درجة الحرارة العالمية وله اثر كبير في حصول التغيرات المناخية في جميع العالم و في أنماط الطقس ( معدل درجات الحرارة, التساقط المطري , وحالة الرياح ) و الذي يؤثر مثلا على نسب الجفاف و التصحر . و المقصود هنا بالتغيرات المناخية التحولات الطويلة الأمد في درجات الحرارة وأنماط الطقس. وسيؤدي هذا الأرتفاع الى زيادة معدلات التبخر وتسريع حدوث دورة المياه وهطول الامطار و بكميّات أكبر الا أنها لا تتوزع بالتساوي على جميع مناطق العالم ووفقاً للدراسات فإن معدّل هطول الأمطار العالمي سيزداد تقريبا من 3% إلى 5%. و تتزايد رطوبة و لزوجة الجو بسبب انبعاث الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري مما قد يؤدي الى حصول الأعاصير العنيفة وأمطار أكثر غزارة في المناطق الأستوائية.
و لتغير المناخ عواقب كثيرة منها الجفاف الشديد و تراجع خصوبة التربة وتزايد نقص الكساء النباتي وفقدان رطوبة التربة و العواصف الترابية و الرملية و التصحر و شحة المياه و تراجع المحصول الزراعي و الخزين الغذائي وحدوث الحرائق الشديدة و ارتفاع مستوى سطح البحر نتيجة ذوبان الكتل الجليدية الضخمة في القطب و تمدد كتلة مياه المحيطات و الذي سيرفع من مستوى البحر من 0.1 إلى 0.5 متر مع حلول 2050 و يهدد بشكل خاص التجمعات السكانية الساحلية و أيضا حدوث العواصف الكبيرة و تدهور التنوع الأحيائي و أنقراض اجناس عديدة من النباتات و الحيوانات خاصة الصغيرة و المجهرية. وللتغير المناخي أيضا تبعات أقتصادية حيث يتعرض الأمن الغذائي للخطر بسبب تقلص المساحات الغذائية و تتعرض المجتمعات المحلية لشبح المجاعة و الذي يؤدي الى نزوح سكان و قرى بأكملها و تصاعد النزاعات. و سيؤدي التناقص في المياه خلال 50 عاما القادمة الى زيادة كبيرة في عدد الأشخاص الذين يعانون من شحة مياه الشرب. و تؤدي ارتفاع درجات الحرارة أيضآ الى أثار صحية كتفشي الأمراض الوبائية مثل وباء الكوليرا و انتشار الآفات والحشرات الناقلة للأمراض كالبعوض الناقل للملاريا او الإصابة بفيروس غرب النيل على سبيل المثال.
و بسبب التفاعل بين الماء و ثاني أوكسيد الكربون ترتفع حموضة المحيطات و الذي له تأثيرات سلبية على التنوع الأحيائي و على التيّارات المحيطية التي تحدث نتيجة الأختلاف في ملوحة المحيطيات و درجة حرارتها.
ولأول مرة توصل المجتمع الدولي في اتفاقية باريس 2015 حيث و قعت 119 دولة على اتفاق يحد من أنبعاثات الغازات الدفيئة بما يقل عن 2 درجة مئوية مقارنة بالمرحلة ما قبل الصناعية و الهدف الان بعد مؤتمر المناخ كوب 26 الذي عقد في المدينة الأسكتلندية كلاسكو 2021 ان تحديد الزيادة بقدر 1.5 درجة مئوية بحلول 2100 لتقليل مخاطر التغير المناخي المحتملة .
اما على صعيد المعالجات فتتلخص بثلاثة اجراءات رئيسية يجب اتخاذها عالميا لتصفير البصمة الكربونية و خفض الأنبعاثات مثلا عبر الأنتقال الى منظومات من الطاقة النظيفة بدلا من الوقود الأحفوري و زيادة رقعة المناطق الخضراء و الغابات و تحسين قطاع وسائط النقل و البناء على سبيل المثال و الأجراء الثاني هو التكيف مع تأثيرات المناخ لحماية البشر و البنى التحتية و النظم المائية و الطبيعية و إقامة أنظمة انذار مبكر للكوارث المناخية كالعواصف و الفيضانات و تحسين الجهاز الصحي و تطبيق نظم الزراعة الحديثة.
و الأجراء الثالث عبر توفير التمويل الكافي لزيادة الأستثمار في مكافحة ظواهر التغير المناخي في البلدان النامية و التحرك بأتجاه التكيف عبر إقامة اقتصاد أخضر مستدام و الذي تبلغ كلفته بحدود 100 مليار دولار سنويا بدءا من عام 2020 علما بأن الكلفة المالية ستزيد مع تفاقم مظاهر التغير المناخي و صولا الى 300 مليار دولار سنويا بحلول 2030.
و قد درست المؤسسات الأستخباراتية والأمنية هذا الموضوع وأصدرت تقريرآ بعنوان “ التغير المناخي والأستجابات الدولية للتحديات المتزايدة على الأمن القومي الأمريكي لغاية 2040” حول تأثيرات التغير المناخي على المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية و الذي رفعت عنه السرية قبل حضورالرئيس بايدن مؤتمر المناخ الدولي في كلاسكو المعروف كوب 26.
وتلاحظ طبيعته الأستباقية و أهدافه السياسية منها مثلا تحول سياسة الإدارة الأمريكية في العودة الى اتفاقية المناخ بعد ان خرج منها الرئيس السابق ترامب بينما بقى الهاجس الأساس هو ضمان المصلحة الوطنية العليا الأمريكية و إدارة ناجحة للمخاطر الناجمة عن القضايا الجيوبولوتيكية الناتجة من التغير المناخي و من الجدير بالإشارة ان قضية التغير المناخي دخلت كأحد القضايا المؤثرة في السباق الى البيت الأبيض.
ومن أهم استنتاجات هذا التقريرالهام ان تفاقم التغير المناخي سيزيد من المخاطر على الأمن القومي الأمريكي ومن مظاهرهذه التحديات الجيوبولوتيكية هي:
1.تصاعد و تعدد الخلافات حول من يتحمل المسؤولية الأكبر في تطبيق اتفاقية باريس لخفض الانبعاثات و التنافس لحيازة و احتكار التكنولوجيا الحديثة خاصة في مجال التحول الى بدائل نظيفة للطاقة و في هذا التسابق ستتخلف الدول النامية التي تواجه صعوبات اقتصادية. فمن المتوقع مثلا ان تلعب الهند و الصين دورا بارزا في تخفيض الأنبعاثات بسبب نشاطها الأقتصادي المرتفع بينما ستطالب البلدان النامية و الفقيرة اقتصاديا بإعفائها كونها دخلت التصنيع بشكل متأخر وهي بحاحة لأستخدام الوقود الأحفوري و الى الدعم المالي و نقل الخبرات و التكنولوجيا كي تحقق الأنتقال الى الطاقات النظيفة و تطبيق سياسات التكيف. و من المتوقع أن تؤدي هذه الصراعات الى ضعف القدرة عالميا لتحقيق اهداف اتفاقية باريس لتخفيض الانبعاثات وفق الجداول الزمنية التي حددتها اتفاقية باريس. و ليس من مصلحة المجتمع الدولي ان يزيد التوتر بين الدول حول كيفية و إمكانية تحقيق اتفاقية باريس خاصة وان على هذه الدول ان تقدم احصائيات عن انبعاثاتها بكل شفافية و مصداقية بدلا من تبادل الأتهامات.
2. و يتطلب تحقيق الحد من الزيادة فوق 1.5 مئوية تسريع تخفيض استخدام الوقود الاحفوري و لكن المعيق ان البنية التحتية الحالية للصناعات بنيت على أساس استخدام الوقود الأحفوري و التي سيكلف تغييرها أموالا طائلة. و مع انتشار أستخدام الطاقة الشمسية التي يمكن ان تكون خيارآ رخيصا لدعم الشبكة الكهربائية الا ان زيادة المنتج يتطلب استثمارات و توسعا صناعيا في أنواع متطورة من البطاريات لتخزين الكهرباء وتتيح استخدامها في أوقات غياب الشمس. وتشير التقديرات الحالية ان المصادر النووية و الكهرومائية ستبقى مساهماتها متواضعة وفي الوقت الذي تحاول بعض البلدان تقليص المصادر النووية بسبب الكلفة العالية و المخاطر بينما ستحاول أخرى بالأستثمار بالقدرات النووية كمصدر للطاقة و هناك ترقب لحصول تقدم تكنولوجي يسمح بإقامة مفاعلات نووية صغيرة و لكن هذا لن يحدث في القريب العاجل .
3. ستشهد مناطق عديدة من العالم زيادة النزاعات العرقية و العشائرية و النزوح حول الماء و الغذاء بسبب الشحة و الجفاف خاصة بعد 2030 و تراجع الأستقرار السياسي و توسع السكن العشوائي و زيادة البطالة و الفقر و الى تصاعد الخلافات الحدودية بين البلدان لحماية مصالحها و أمنها الغذائي و المائي و الحد من الهجرة وقد تؤدي الحسابات الخاطئة الى صراعات دموية جادة .