بقلم عباس الزيدي
لم يخطر لي خلال سنوات مضت أن أعاود الكتابة في الشؤون السياسية أو الاجتماعية لأسباب متعددة، ولكني وجدت أنه من غير المناسب أن ألتزم الصمت حينما يتعلق الأمر بالصالح العام. حديث اليوم هو السيد جعفر الصدر ومسألة ترشيحه لرئاسة الوزراء، وها هو يتعرض لحملة ممنهجة تقودها مؤسسات فاشلة سياسياً أو جهات إقليمية استعمارية مقنعة أو نفوس مريضة قلقة، لم يتركوا له خصلة حسنة إلاَّ ولوثوها، ولا تاريخ إلا وتنكروا له. السيد جعفر الصدر عرفته منذ أيام الشهيد الصدر في النجف الأشرف، وبشكل وثيق قريب لأكثر من ثلاث سنوات أيام المهجر والغربة في قم المشرفة، احتضن كل المنتسبين للشهيد الصدر الثاني وتولى رعايتهم وتفقدهم بمناسبة ومن دونها، كان يطرق بابي في أوقات قد يجدها البعض غير مناسبة، كما كان يفعل قبل وقت العشاء لا لشيء سوى ليرى ما نأكله، وكان يتلذذ بمشاركتي (المثرودة) التي قال لي إنها أكثر ما يحبه من الطعام، وربما لم يكن كذلك إلا للمواساة، وفي اليوم التالي كان يرسل من المال أو المؤونة ما يتسع له، ولم يكن هذا شأنه معي فقط، بل مع جميع المحسوبين على الشهيد الصدر الذي هربوا إلى إيران من بطش الطاغية، بل وغيرهم، ولم يكن ذا سعة في المال بل كان يستدين من أجل أن يوفر لنا ما يمكن أن يسد رمقنا ويحافظ على كرامتنا. تحمل النزق والحماقات من الجميع تقريباً وكان يتلقى نتائجها دوننا، أمام الجهات الرسمية وغيرها. كان أحد المحسوبين على الشهيد الصدر الثاني معتقلاً في إيران بعد إغلاق مكتبه في قم،، ولولا إصرار السيد جعفر الصدر على حمايته وضمان سلامته لكان دخوله السجن تذكرة ذهاب بلا عودة، ولولا إصراره على إطلاق سراحه لما خرج. قُدمت له شتى أنواع العروض وساوموه ليتخلى عن الشهيد الصدر الثاني فلم تفلح كل المحاولات والتهديدات. والحديث يطول هنا والتفاصيل لا يتسع لها المقام. وها هو اليوم يتعرض لهجمة لا تبقي ولا تذر، وصفوه بأنه انعزالي أو غير قادر على إدارة مدرسة فضلاً عن إدارة بلد بحجم العراق بمشاكله، والقولان الأخيران لرئيسي وزراء أسبقين من حزب مصاب بعقد ونرجسية يعرفها الجميع، ولكن ما رأيته منه من سعة صدر وقدرة على التحمل وسعي من أجل تنمية رفاقه تلك الأيام، توضح الكثير من مواصفات شخصيته القيادية، حيث حتمت عليه الظروف في قم أن يكون هناك في موقع المسؤولية عن العشرات من الأشخاص بمختلف أفكارهم ونزعاتهم ومستوياتهم، واستطاع أن يستوعب الجميع تقريباً، بل حتى أشخاص من توجهات أخرى لم يكن يبخل عليهم بمد يد العون لهم. وصفوه بأنه يعاني من الانعزال والمشاكل النفسية، وهذا أمر ليس بجديد، فنفس هذه المواصفات أطلقوها من قبل على ابن عمه الشهيد الصدر الثاني، والمفارقة أنها من نفس الجهات، بعد أن فشلوا في استيعابه ما بعد انتخابات سنة 2010. قللوا من شأنه العلمي، وأنا على يقين من أنهم لو جربوا مناقشته لكان حالهم كما قال الشاعر : نظروا إليك بأعين محمرة * نظر التيوس إلى شفار الجازر. يكفي أن نرى سعة إطلاعه ودقته من خلال مقدمته المعنونة (ماض يرسم مستقبلنا) لكتاب شبلي ملاط (تجديد الفكر الإسلامي) الطبعة الثانية، التي تنم عن معرفة واسعة وتحقيق واهتمام بالأسس التشريعية للفقه السياسي، وتبنيه لآراء خاصة يمكن قراءتها من بين السطور. نعم هو قد يختلف في جملة من الأفكار مع أسلافه ولكن هذا بلا شك من ضمن متطلبات المرحلة، فما كان يصلح بالأمس لا يعني أنه يصلح لليوم، وهذا ما اتخذه البعض كمطعن ومثلبة ضده، لأن هؤلاء يتغذون من انتسابه لأسلافه هو، لا لعلم أو مبادئ أخذوها وساروا بها، ولكن من أجل ضمان بقائهم في السلطة وحصولهم على الامتيازات، التي رفضها جعفر الصدر في يوم عندما تعارضت مع قيمه.
اليوم جعفر الصدر هو المرشح الوحيد لرئاسة الوزراء، ويقيني أنه لم يكن ليوافق على التصدي لهذا المنصب لو كان ذلك بشروط تتعارض مع قيمه، فنحن اليوم أمام مفترق طرق، إما بقاء التوافقية واقتسام ثروات البلد بين المتوافقين، أو رئيس وزراء من دون قيد أو شرط، يدير حكومته وفق برنامج مدروس بكفاءات تم انتقاؤها، ويكون همه الوحيد مصلحة البلد لا مصالح الإقليم أو ما هو أوسع دائرة. نحن بحاجة إلى شخصية تتمتع بتاريخ جعفر الصدر وشجاعة جعفر الصدر ونزاهته وأبوته للجميع من دون نظرة استعلائية مبنية على أسس إثنية أو طائفية، وأقول لهؤلاء الذين يطبلون لعنوان الخشية على مستقبل التشيع في العراق، هل أنتم من حافظ على التشيع خلال قرون متطاولة؟. ألم تكونوا ومن خلفكم اللتيا والتي من أجج الصراع الطائفي، وهنا أتذكر كلمة للشهيد العظيم الصدر الثاني : ليس بيدي بقاء الدين ولا بيد عبد المطلب، فللبيت رب يحميه. ومع أن هذا غاية في التواضع منه قدست نفسه الزكية، إلا أنه يكل الأمر إلى خالقه جل وعلا كما هي حقيقة الأمر.
جعفر الصدر اليوم هو مطلب لكل فئات الشعب بمختلف انتمائاتهم، وهو عندما تبنى هذه الرؤية لا من أجل الوصول للسلطة أو لأهداف شخصية، فهو صادق في أبوته للجميع، وآن الأوان لسلطة القانون وسيادة الشعب واستقلال القرار في البلد.
خطوة التيار ممثلاً بالسيد مقتدى الصدر ترشيح السيد جعفر بالاتفاق مع الشركاء من المكونين الكرد والسنة خطوة استثنائية وموفقة وكلي يقين أنها ستؤتي ثمارها، بإذن الله تعالى، ولكن اليوم ليس كالغد، وعلى قيادة التيار أن تستعد لمواجهة شرسة، ليس أكبرها الإعلام والتسقيط، ونشد على يدها للتمسك بمطالبها المعلنة، لضمان إخراج البلاد من نطاق التبيعة السياسية والاقتصادية والأمنية.