- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
المساس بالمؤسسة القضائية الناشئ عن استخدام القاضي لوسائل التواصل الاجتماعي
بقلم:القاضي غالب عامر الغريباوي
شهد العالم في السنوات الاخيرة انتشاراً غير مسبوق لوسائل التواصل الاجتماعي وقد اثار استخدام تلك الوسائل العديد من الاشكالات الاجتماعية وحتى القانونية على مستوى العامة كما ان تلك الاشكالات تزداد صعوبة عند استخدام القاضي لتلك الوسائل، لذا فقد كان ولازال استخدام وسائل التواصل الاجتماعي موضوعاً لاهتمام مجالس القضاء في اغلب دول العالم وكذلك المنظمات الدولية والمؤتمرات المتخصصة بالقانون والقضاء، وان تلك الاشكالات التي تحصل في الواقع العملي في مختلف دول العالم قد ولدت اتجاهين اساسين فيما يخص استخدام القضاة لتلك الوسائل؛ اولهما برفض السماح للقضاة باستخدامها استناداً الى ما تقضيه اعتبارات الحياد والحفاظ على نزاهة القضاة واستقلال المؤسسة القضائية، اما الاتجاه الآخر فيعترف للقضاة بذلك باعتباره احدى صور الحق في التعبير عن الراي، ولكن حتى اصحاب هذا الاتجاه وضعوا قيودا كثيرة تفرضها طبيعة الوظيفة القضائية، اذ يجب على القاضي ان يتحلى بالكياسة في تصرفاته واحاديثه حتى لا يخدش صورة الحياد التي تعد ضرورية لحفظ مصداقية وهيبة القضاء، اذ ان اساس ثقة المواطنين بعدل قضائهم يقوم على تحري رجاله ونزاهتهم واستقلالهم وحيادهم وابتعادهم عن كل ما يثير الشكل والشبهات في سلوكياتهم.
ولما يشكله استخدام التواصل الاجتماعي وخاصة الفيس بوك وتويتر من ابتعاد عن مهنية القضاء ودوره كحصن وملاذ لكل ذي حق ، لما توقعه تلك الوسائل بالقاضي من حرج، كما ان الخصوصية المزعومة المستندة الى الاسماء الوهمية التي تنتهجها شبكات التواصل الاجتماعي لا تعفي القاضي من الواجبات المرتبطة بمركزه المهني وخاصة واجب التحفظ باعتباره ضمانة للحياد والتجرد والمصداقية المقررة للمصلحة العامة المتمثلة في الحفاظ على المؤسسة القضائية من كل ما يتعرض لها او يسيء اليها لتبقى محل ثقة الجمهور.
ان التحولات السريعة في عوالم التواصل الاجتماعي اثارت المخاوف من مغبة حصول انزلاقات خطرة تؤثر على المؤسسة القضائية نتيجة انخراط القضاة في استعمالها، لذا فقد تصدت المؤسسات القضائية المختلفة في العالم لتلك الظاهرة من خلال التأكيد على اظهار مبدأ التحفظ الذي يفرض على القاضي التحلي بقيم الوقار والهيبة والحياد في جميع افعاله سواء في نطاق ممارسته لمهامه القضائية او خارجها بغية الحفاظ على شرف مهنة القضاء وهيبتها ومكانتها في المجتمع.
وفي هذا السياق نص الميثاق الاوربي المتعلق بالنظام الاساسي للقضاة على وجوب امتناع القضاة عن اي فعل او سلوك او تعبير من شأنه ان يؤثر على الثقة في حيادهم واستقلالهم، كما ان مبادئ بيرغ بشأن استقلال القضاء اكدت على وجوب تحفظ القضاة بأبداء آرائهم في الامور العامة.
وعلى مستوى التشريعات المقارنة فأن القوانين المنظمة لمهنة القضاء في كل الدول الاوربية تقريباً قد وضعت التزامات على القضاة تروم من خلالها الحفاظ على النزاهة والاستقلال بما في ذلك وضع القيود على حرية التعبير عن الرأي كما هو الشأن في فرنسا وهولندا والبرتغال وروسيا والنرويج وكرواتيا والتشيك ورومانيا وفي تركيا.
وفي الولايات المتحدة الامريكية وعلى الرغم من ان تعيين القضاة في اغلب الولايات فيها يكون عن طريق الانتخاب ورغم ما تحتاجه الانتخابات من دعاية والتي تكون وسائل التواصل الاجتماعي احدى وسائلها ان لم تكن اهمها، رغم ذلك فأن استخدام القضاة لتلك الوسائل قد اثار جدلاً كبيراً وجرى التعامل معه بحذر شديد ادى الى صدور العديد من القرارات القضائية التي توحي بالحذر او الامتناع عن استخدام تلك الوسائل ومنها القضية 2132 AP17 في ولاية ويسكونسن والتي كان موضوعها وجود علاقة صداقة عبر الفيسبوك بين القاضي واحد اطراف دعوى تنازع الحضانة والتي صدر فيها قرار بتاريخ 20/2/2019 جاء فيه ( ان قبول القاضي الصداقة في بيئة الفيسبوك من قبل احد المتخاصمين خلف يقيناً كبيرا بانحراف الحياد الفعلي لديه) كما جاء بالقرار(على الرغم من اننا لا نفرض حظراً صارماً على الاستخدام القضائي لوسائل التواصل الاجتماعي الا اننا نرى ان الصداقة والمنشورات والانشطة الاخرى عبر الانترنيت يمكن ان يساء فهمها بسهوله وتظهر بمظهر غير لائق وان صداقات القاضي عبر الانترنيت يجب التعامل معها بمثل التعامل مع صداقاته الواقعية بقدر كبير من العناية، لأنها بلا شك دليل على نوع من الارتباط الاجتماعي) وقد انتهى القرار بنقض القرار الصادر عن ذلك القاضي واحالة الدعوى الى قاضي اخر لإجراء المزيد من التحقيقات فيها.
اما على مستوى الدول العربية فقد اصدر المجلس الاعلى للقضاة في مصر اعماماً في عام 2014 حذر فيه القضاة واعضاء النيابة العامة من استغلال وسائل التواصل الاجتماعي وشكل لجنة من عدد من القضاة لمتابعة ذلك وقد تم احالة (28) قاضي الى جهاز المفتشية (وهو ما يقابل هيئة الاشراف القضائي في العراق) لسوء استخدامهم وسائل التواصل الاجتماعي، وسبق وان قام في عام 2013 بإحالة 56 قاضياً للتحقيق على خلفية تصريحات لهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي 14/3/2015 قرر المجلس التأديبي إحالة 31 منهم الى التقاعد كونهم قد فقدوا الصلاحية لتبوء المنصب القضائي، وهذا ما حصل في المغرب ايضا اذ تم في عام 2016 احالة عدد من القضاة الى النيابة العامة للتحقيق معهم لسوء استخدامهم تلك الوسائل وأحيل قاضيان منهم الى المجلس الأعلى للقضاء الذي أصدر بحقهم عقوبة التوقيف والعزل، كما حذرت وزارة العدل الجزائرية في عام 2016 القضاة وموظفي المحاكم من استعمال وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر).
في السعودية صدر في عام 2012 أمراً ملكياً بمنع القضاة من استعمال وسائل التواصل الاجتماعي من أجل صيانة القضاة من الاستغلال وحمايتهم من الشبهات، كما أصدر المجلس الأعلى للقضاء في الكويت في 2015 قراراً مماثلاً.
وفي العراق وبعد أن انتشر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ومع قيام بعض القضاة باستخدام تلك الوسائل بأسمائهم وصفاتهم القضائية وبشكل يستعرض ذواتهم وعوائلهم وعرض الصور الشخصية لهم واستعماله كمنبر للتصريحات وإبداء الآراء السياسية والقضائية فقد قرر مجلس القضاء الأعلى في جلسته بتاريخ 31/3/2014 قراراً تضمن عدم قيام السادة القضاة وأعضاء الادعاء العام بأسناد صفاتهم القضائية الى أسمائهم في صفحات التواصل الاجتماعي والتحفظ عن الاشتراك في مثل تلك الصفحات وتجنبها قدر الامكان تلافياً للإساءة التي قد تصدر عن تلك الوسائل، وهذا ما تضمنه الاعمام الصادر عن هيأة الاشراف القضائي بالعدد (1555 في 3/4/2014) وتم التأكيد على ذات الأمر في جلسة مجلس القضاء الاعلى المنعقدة في 17/1/2017 ، والتأكيد عليه بشكل مفصل بجلسة مجلس القضاء الاعلى الاخيرة المنعقدة بتاريخ 25/2/2021 وهو ما تضمنه الاعمام الصادر عن مكتب السيد رئيس المجلس المحترم بالعدد (220/مكتب/2021 في 3/3/2021).
وحيث إن مجلس القضاء الأعلى هو المرجعية الوحيدة لجميع القضاة وأعضاء الادعاء العام وإن ما يصدر عنه من قرارات تكون ملزمة لهم كما ان هياة الاشراف القضائي هي الهيأة المسؤولة عن مراقبة ومتابعة سلوكيات القضاة وأعضاء الادعاء العام ، لذا نقترح ان يصار الى إصدار مجلس القضاء الأعلى (مدونة السلوك القضائي) اسوةً بما يجري عليه العمل في اغلب بلدان العالم وان تستمد تلك المدونة مبادئها الاساسية من احكام الشريعة الاسلامية والدستور والقيم الاخلاقية للمجتمع وقيم وتقاليد القضاء العراقي والمعاهدات والاتفاقيات الدولية والقواعد الاسترشادية الدولية ذات العلاقة، وذلك لمواجهة ومواكبة المستجدات التكنولوجية والاقتصادية وما خلفته من مستجدات اجتماعية، والتأكيد على حدود القاضي في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للخصوصية التي تتمتع بها تلك الوسائل في العراق والتي تفتقر الى ابسط وسائل الرقابة مما جعلها منبراً للنيل من مؤسسات الدولة ومنها المؤسسة القضائية، كما وتتضمن تلك المدونة الاسس الواجب الالتزام بها من قبل السادة القضاة واعضاء الادعاء العام في جميع سلوكياتهم سواء اثناء ممارستهم عملهم القضائي او خارجه، وبذلك يكون لها الالزام القانوني الذي يعرض مخالفها للمسائلة، وان تتولى هيئة الاشراف القضائي متابعة تنفيذها واحالة المخالف الى لجنة شؤون القضاة واعضاء الادعاء العام ويأتي، ذلك تطبيقاً للنص الملزم الوارد في البند اولاً من المادة (7) من قانون التنظيم القضائي رقم 160 لسنة 1979 الذي تضمن اولى التزامات القاضي وهو (المحافظة على كرامة القضاء والابتعاد عن كل ما يبعث الريبة في استقامته).
أقرأ ايضاً
- الآثار المترتبة على العنف الاسري
- جدلية الاختصاص في ابرام الاتفاقيات القضائية
- فازت إسرائيل بقتل حسن نصر الله وأنتصرت الطائفية عند العرب