- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
كربلاء تودع مربياً في زمن الوباء..
بقلم: علي الراضي الخفاجي
عندما تقرأ بعض الروايات التي تتحدث عن الفتنة والابتلاء، تتبادر إلى مخيلتك حوادث وتصورات قد تترك فيك إحباطاً، أوتساؤلات عن الحكمة من تقديرها ونزولها، فما عليك تجاه ذلك إلا أن تتحرى الحكمة من ورائها، وتدأب في معرفة فلسفتها.
وقد لاندرك -لأول وهلة- الفرق بين الفتنة والابتلاء ومصاديقهما، فمما لا يخفى أن الابتلاء نوع من الاختبار، ويكون بالخير والشر، يقول تعالى:((..ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون))الأنبياء/35، وقد يأتي البلاء بمعنى الإنعام، كما في قوله تعالى:((وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين))الدخان/33، أي إنعام بيِّن، وقال تعالى في قصة سليمان عندما سخَّر له من يأتيه بعرش بلقيس في طرفة عين:((..قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر..))النمل/40.
وقد يكون البلاء بسبب المخالفة إن كانت عن جهل أو غفلة أو تمرد، ولكن الغاية العظمى من الابتلاء هي لتربية الإنسان، وجعله وهو يسير في مدارج الكمال باحثاً عن التميز، لا أساس الظلم، إنما على أساس التفاضل الذي يكسب الإنسان رقياً يخدم به أبناء جنسه، وقد يكون الابتلاء لغرض الردع أو لغفران الذنوب، فقد ينزل بساحة المؤمن ما يكره، ولكنه يعود عليه بالنفع العظيم، ومثال ذلك ماورد في قصة أصحاب الكهف وقصة خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار.
وعندما سئل نبينا الأعظم صلى الله عليه وآله عن أي الناس أشد ابتلاءً؟ قال:((الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل..))، أي الأفضل والأعلى رتبة ومنزلة.
وبمناسبة الحديث عن(الأمثل فالأمثل)، كان الحديث عن الفقيد المرحوم الأستاذ والمربي(عبد الهادي عبد الجليل إبراهيم المرشدي)وهو من أماثل الناس، حديثاُ عن تميزه الذي انتهى بابتلائه بالوباء الذي ألقى بظلاله على البشرية جمعاء.
المرشدي الذي يكنى بـ(أبو حسني)من مواليد عام 1939 في منطقة باب السلالمة في مدينة كربلاء، أحب تعلم القرآن الكريم وتعليمه منذ الصغر، ولطالما تحدث عن فضل معلمه في المدرسة الهاشمية المرحوم (الأستاذ حسين الخزرجي)، إذ كان الأخير قارئاً ومجوداً للقرآن الكريم، وهو من أهالي قضاء المسيب، تخرج الفقيد من المرحلة الإعدادية عام 1956، فتم تعيينه بصفة معلم في إحدى المدارس القروية(مدرسة حبيب بن مظاهر)ثم موظف في مديرية التربية، وبعد عدة طلبات قدمها عاد مرة أخرى لمهمة التدريس التي تعلق بها أيّما تعلق، لكن هذه المرة في مدرسة السجاد الابتدائية المجاورة للمخيم الحسيني، فكان أستاذاً لمادة التربية الإسلامية والتاريخ والجغرافية.
وفي عام 1964م انتقل محل سكناه إلى منطقة حي المعلمين، وبقي مستمراً بالتعليم في نفس المدرسة -الآنفة الذكر- إلى عام 1978م، وبعد خدمة بلغت حوالي اثنين وعشرين عاماً حافلات بالعطاء، وبسبب المضايقات التي تعرض لها من حزب البعث؛ لغرض الانتماء إلى بعث الجهل والظلام، تقدم بطلب لإحالته إلى التقاعد، فكان له ذلك ليتفرغ لأداء رسالته بنحو آخر، بعيداً عن أعين المنافقين وجلاوزة النظام، فكان من جملة نشاطاته إقامة محفل قرآني تعليمي في داره، وهو محفل تتنوع فيه العطاءات والدروس، يستضيف فيه ذوي الاختصاص ليقدموا ما لديهم من قدرات تتعلق بكتاب الله تعالى، وفي هذا الحي كان هناك نشاط ديني متميز؛ لما يضمه من أفضل وأخلص من عمل في مجال التربية والتعليم في كربلاء، فقد سبق محفله ما كان يعقد في دار السيد الشهيد صادق آل طعمة، وكان هو ممن يحضره ويحث الناس على ارتياده، وهكذا كان التنقل بين بيوتات كربلاء قائماً في الحقبة السوداء؛ إما لإقامة محافل قرآنية، أو مجالس حسينية، وكلاهما يصب في تربية الإنسان وتهذيبه وتوعيته.
وعندما ذاع صيت الفقيد تم استدعاءه أكثر من مرة إلى دوائر الأمن وإبلاغه بالمنع عن إقامة هذه النشاطات، وبعد سقوط الصنم من على جسد العراق الجريح عام 2003م تم اختياره من قبل المرجعية الدينية للإشراف على إدارة العتبة العباسية المقدسة، واستمر في خدمة أبي الفضل العباس عليه السلام أربعة أعوام، بعدها طلب إعفاءه لأسباب صحية؛ ليتفرغ لخدمة المجتمع من خلال جامع حي المعلمين المجاور لداره، حيث انطلق محفله القرآني انطلاقة جديدة ليستوعب عدداً أكثر، ولينهل مرتادوه ليس فيما يتعلق بالتجويد فقط؛ إنما بالاستفادة من نكات التفسير والأخلاق، وفي علوم العربية، بالإضافة إلى رعايته لشريحة الأيتام والمتعففين حتى التحق بربه على إثر إصابته بوباء كورونا عن عمر ناهز الثمانين، قضاه في أقدس مهمة، ألا وهي التربية والتعليم، رسالة الأنبياء والمرسلين.
لقد كان المرحوم ليس رجل دين، بل ديناً في رجل، يجسد لك الدين في أبهى صوره، فكان ثقة المرجعية الدينية في قضاء حوائج الناس، مما جعلها ترثيه بأرق الكلمات، وحزن لفقده الجميع، وكأنه خطف قلوبهم معه؛ ليحلق بها في الملأ الأعلى.
أقرأ ايضاً
- مسؤولية الأديب في زمن الاحتضار.
- صفقات القرون في زمن الانحطاط السياسي
- كربلاء دولة الإنسانية والحسين عاصمتها