بقلم:مصطفى فحص
هزت المرجعية عصاها، وصوبت مباشرة على من عصى فتواها، ووضعت حدا لتأويلاته واجتهاداته، ففتواها الكفائية لم ولن تكون غطاء لأي مسار سياسي أو عسكري يخالف مضمونها الواضح الذي ربطته في الزمان والمكان المناسبين لتلك اللحظة.
ولم يعد ممكن للمرجعية التي استخدمت حضورها الروحي والمعنوي حينها من أجل المساعدة في حماية العراق دولة وشعبا، أن تسمح باستغلال فِعلها العام في مفاعيل خاصة، فقد رسمت النجف الخيط الفاصل ما بين الحشد العام والآخر الخاص، بأن الأول الأساس، لذلك أصرت في مؤتمرها على تحديد الهوية وتثبيت مسمى حشد العتبات، فيما الثاني يواجه الآن مأزقا في تعريف هويته وغطائه.
في النجف، كان من الممكن أن يكون العراق بمواجهة حشدين، لكن قرار المرجعية استعادة الحشد الشعبي ووضعه في سياقه الطبيعي الذي أُسس من أجله، والذي يمكن أن يستمر على أساسه وضع حد لكل التكهنات والأحكام المسبقة التي صدرت قبل وأثناء المؤتمر من الأطراف المنزعجة أصلا من انعقاده ومن نتائجه، لأنها خسرت غطائها الروحي والعقائدي وهي مضطرة الآن إما العودة إلى السياق الذي وضعته المرجعية والتخلي عن مكاسبها السياسية والاقتصادية، أو إعلان تمردها.
سياسيا، مؤتمر حشد العتبات الذي عقد في مدينة النجف بين الأول والثالث من الشهر الجاري وحمل عنوان "حشد العتبات حماة الفتوى وبناة الدولة"، جاء في مرحلة دقيقة يمر بها العراق والمنطقة، لذلك يمكن اعتباره أشبه بقرار استباقي اتخذته المرجعية الدينية العليا، يرتبط بخيرات وطنية وسياسية عراقية تتبناها وتدعمها النجف بشكل مباشر أو غير مباشر، وهي تريد قطع الطريق على استغلال الفتوى في تنفيذ أجنده خاصة أو استخدامها ضمن مشاريع ما فوق وطنية.
منذ 9 أبريل 2003، أثبتت مرجعية السيد السيستاني أنها استثناء في مرحلة استثنائية يمر بها العراق، تملك المبادرة في تصويب البوصلة الشيعية والوطنية، وفي هذه اللحظة الحرجة لم تتردد النجف في القيام بما يمكن وصفه بحركة تصحيحية داخل الحشد، فردته إلى نقطة البداية واستعادته ممن وضعوا يدهم عليه بقوة السلاح والهيمنة، وهذا ما سوف يسبب إحراج للأطراف المستهدفة من تحرك المرجعية، وتضعهم أمام مأزق تعريف هويتهم العقائدية وانتمائهم.
فبعد المؤتمر لا يمكن الاستمرار بازدواجية الولاء والدور، فبالنسبة للحوزة فإن الحشد الذي دعت إليه لا يمكن أن يتحول إلى كيان سياسي مسلح أو يعمل بأجندات خارجية قد لا تتقاطع مع مصالح العراق وشعبه.
في توقيت مفصلي، أعادت المرجعية الحشد إلى المكان المفصلي وربطته بغطائها الجيوعقائدي، فالحشد الذي ولد من رحم العتبات الدينية الشيعية المقدسة، وهو وحده المكلف حمايتها، وهذه إشارة إلى الذين يرغبون في وضع يدهم على الجغرافيا الشيعية الروحية في أي مرحلة انتقالية تشهدها النجف تحت ذريعة ملء الفراغ وحماية الأماكن المقدسة، ولكن من أجل السيطرة عليها ومصادرة قرارها، لذلك أصرت المرجعية على دور العتبات باعتبارها الجهة المكلفة المسؤولية عن رعاية الحشد.
في أصعب مراحل الدولة وضعف مؤسساتها، تصر النجف على التكامل ما بين الدولة ومؤسساتها العسكرية والحشد، وترفض أن يكون ضمن أي إطار مستقل، فالحشد الذي تريده المرجعية ليس فوق الدولة أو ما دونها، ولا يسمح له أن يقوم مقامها، هذا الحرص المؤسساتي على الحشد وضبطه من أجل ضمان انضباطه يخفف هواجس العراقيين وتخوفاتهم من فوضى سياسية وأمنية قد تتسبب بعنف أهلي نتيجة صراعات القوى المسلحة على السلطة.
وعليه، فإن قرار المرجعية العليا في تصويب مسار الحشد وتحديد مهامه ستؤدي حتما إلى الفرز بين مكوناته، بين من يلتزم بقرار المرجعية، وبين من قرر الخروج عنها لم يعد يستطيع أن يرفع لواء المرجعية ويخالف رأيها، فيكون أشبه بفساد الذي سرق المال العام ولكنه علق في منزله "هذا من فضل ربي".