- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
لمحات من خطة طريق بناء الدولة كما بينها الامام علي (ع)
بقلم: د. عبد المطلب محمد عبد الرضا
في عهده الى واليه على مصر مالك الاشتر (رض), بين الامام علي عليه السلام واجبات وحقوق الراعي والرعية (المسؤول والشعب) وطريقة الحكم ومنهج التصرف واختيار مختلف المسؤولين لادارة الدولة لو قام بتطبيقها من ادعى الانتماء الى خط أهل البيت (ع) لجنبهم الوقوع في المشاكل وعصمهم من الكثير من الاخطاء ولاصبح العراق في عز ورفعة وأهله في بحبوحة من العيش الرغيد ومثالا تقتدي به الامم.
ان هذا العهد هو وثيقة من أنفس الوثائق التي تحدثت عن خطة متكاملة لادارة الدولة من وجهة النظر الاسلامية بما يحقق القوة والعدل والازدهار من جانب ويمنع الظلم والفساد وسوء الادارة من جانب آخر. فهي وثيقة شملت العديد من المواضيع المهمة والضرورية لادارة الدولة ومؤسساتها وتشكل خطة طريق وتبين المسار الصحيح الذي يجب على الحاكم ان يسلكه في ادارة الدولة واختيار النزيهين والكفوئين لادارتها كما تضمنت الوثيقة معاني سامية لاحترام كرامة الانسان وضمان سبل عيشه. وسوف نتوقف باختصار على النقاط الخمسة الاولى التي جاءت في بداية العهد لنرى مدى مطابقة الواقع الحالي في العراق على مداليلها ومصاديقها ونترك الغوص في ابعاد واعماق بقية النص لانه بحاجة الى أكثر بكثير جدا من هذه المقالة المختصرة.
يبدأ العهد بأسم الله فهو مفتاح السعادة وطريق النجاح لكل عمل ينوي الانسان القيام به ثم يأمر الامام علي (ع) واليه على مصر (جباية خراجها, وجهاد عدوها, واستصلاح أهلها, وعمارة بلادها, أمره بتقوى الله وايثار طاعته وأتباع ما أمر به في كتابه ...... ).
- ان (جباية الخراج) مرهون ومتوقف على (عمارة الارض) كما اشار لذلك الامام (ع) في موضع آخر من العهد. فلغرض الحصول على الضرائب والرسوم ينبغي على المسؤول أولا أن يقوم بأنشاء البنية التحتية الزراعية والصناعية والعلمية والاقتصادية الضرورية لحاجات البلد.
ان النظر الى الواقع الحالي يبين بوضوح عدم وجود عمارة للارض، فالعراق ما زال يفتقر الى البنية التحتية في جميع المجالات ويفتقر الى المصانع والمعامل والمشاريع الاستراتيجية الكبرى والسكك الحديدية الحديثة والموانيء والمستشفيات ومشاريع السكن وكل ما هو ضروري لعمارة الارض وبناء دولة مزدهرة وقوية. كما ان الدولة غير قادرة على استرداد الاموال المنهوبة والمسروقة وعلى جباية الضرائب واستحصال الرسوم المفروضة بشكل كامل في العديد من المرافق الحكومية كالمنافذ الحدودية ونفط المنطقة الشمالية وضرائب شركات الاتصالات والهواتف ودوائر المرور والعقار وبقية الدوائر والمؤسسات الاخرى.
- (جهاد العدو) وهو لا يعني فقط الدفاع عسكريا ضد من يريد شرا بالعراق وانما يتضمن ايضا بناء دولة قوية يهابها الاعداء وتمنع الاخرين من التدخل في شؤونه الداخلية والتحكم باقتصاده وتأخير نهضته الوطنية وتوجيه سياسته الداخلية والخارجية وقراره السياسي بما يخدم مصالح الاجنبي ويضر بمصالح الوطن.
ان جهاد العدو يعني ايضا المحافظة على ثروات العراق من مياه واراضي وعدم التفريط بها في مشاريع استثمارية اجنبية مشبوهة. وهنا ما زلنا بعيدين جدا عن هذه المعطيات فللدول الاقليمية والبعيدة وخاصة دولة الاحتلال تأثير كبير على مجريات الامور في العراق وهي التي تتدخل في شؤونه السياسية والاقتصادية والعسكرية والتنموية وتلعب الدور الرئيسي في هدم كيانه وتقسيمه واعاقة نهضته الاقتصادية والعلمية والصناعية.
- ان تعميم الشبكة العنكبوتية والدخول الى القنوات الفضائية الاجنبية بشكل حر وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة بشكل غير مسيطر عليه وقيام دولة الاحتلال بالعمل بجد ونشاط وضمن خطة شيطانية على هدم وتشويه قيم ومباديء الشعب العراقي ونشر الفوضى والخراب ومحاربة الدين الاسلامي وثوابته ادى الى تحول مطلب الامام علي (ع) في (استصلاح أهلها) الى العكس من ذلك.
فالوضع الحالي جار على قدم وساق لنسف جميع القيم الاسلامية والعربية الاصيلة وتغريب الامة وتجهيلها, وبالخصوص الشباب من الجنسين, وابعادهم عن تاريخهم وثقافتهم ودينهم ونشر الافكار المضلة والسلوك الخادش للحياء واباحة الفاحشة وشرب الخمور وما تنبذه الفطرة السليمة والسلوك القويم. أما التعليم وبمختلف مراحله فهو في تراجع مستمر وسيأتي اليوم الذي يلغى فيه التعليم الحكومي ويبقى التعليم الاهلي هو السائد للذين يستطيعون دفع تكاليفه الباهضة ونفس الامر ينطبق ايضا على قطاع الصحة والرعاية الصحية وعلى الخدمات الاجتماعية.
- (عمارة بلدها) وهنا لم نشد اعمارا في العراق منذ الاحتلال عدا الاسواق الكبيرة (المولات) ومدن الالعاب بل نرى في الحقيقة تراجعا في البنى التحتية الضرورية وتدهور لما كان موجود سابقا. فمنذ سبعة عشر عاما لم نشهد بناء معمل يسد حاجة البلد ويعوض عن المنتوج الاجنبي المستورد ولا مصنع يسد حاجة العراق من الادوية والمستلزمات الصحية ولا افتتاح طرق سريعة ولا شبكة سكك حديدية حديثة ولا مستشفيات غير الاهلية ولا مراكز للبحث والتطوير ولا مدارس أو جامعات غير الاهلية والخاصة ولا سدود ولا مشاريع زراعية أو صناعية أو استراتيجية مهمة. ان اغلب البضائع والاجهزة والمنتجات المعروضة في الاسواق العراقية مستوردة من الخارج ومن دول لا تمتلك احيانا ما يمتلكه العراق من امكانيات مادية أو فكرية أو بشرية.
- (تقوى الله وايثار طاعته وأتباع ما أمر به في كتابه ... ) وهنا يكمن مفتاح النجاح وخطة الطريق التي ينبغي الالتزام بها كما تظهر هذه النقطة مدى التزام المسؤولون بما ذكره الامام علي (ع) من توجيهات ونهج لادارة مرافق الدولة ومصالحها.
فالتقوى تعني طاعة الله, والانسان المتقي هو المطيع لله تعالى في تنفيذ اوامره والابتعاد عن نواهيه. والتقوى في المجال السياسي تعني الخضوع لله وحده وعدم الخضوع لجميع اشكال الضغوط والطواغيت ورفض الانصياع لتوجيهاتهم والابتعاد عن المحسوبية والمنسوبية والوقوف بوجه الفساد المالي والسياسي والاداري وسوء التصرف بأموال الدولة وهدرها في مشاريع وهمية أو فاشلة أو غير نافعة للصالح العام ومحاسبة الفاسدين والمتجاوزين على القانون والدفاع عن مصالح الوطن وعدم السماح بالتدخل الاجنبي في شؤونه الداخلية.
من خلال استعراض النقاط الخمسة المذكورة اعلاه ندرك تماما ان العراق ما زال بعيدا كل البعد عن مواصفات الدولة التي بينها الامام علي (ع) وعن خطة الطريق والمنهج الذي وضعه لادارة شؤون الدولة واختيار المسؤولين والسعي لاعمار البنى التحتية والاقتصادية والعلمية والصحية وتوفير الخدمات الضرورية وتشجيع التنمية الاقتصادية وتقوية الدولة ومفاصلها المختلفة ومنع تدخل الاجانب في شؤون البلد.
ومن الملاحظ فان جميع ما تقترحه المؤسسات الحكومية من اصلاحات لا ترتقي الى مستوى التحديات التي يعاني منها العراق وشعبه فهي اصلاحات لا تعالج الاسباب الحقيقية التي هي مصدر الازمات المالية المستعصية وانما تحاول توجيه الانظار عن طريق خلق مشاكل اخرى. ففي كل أزمة مالية يعاني منها الوطن ترتفع الاصوات لتضع رواتب الموظفين والمتقاعدين في موضع المسؤول عن المصاعب المالية التي يعاني منها العراق وتطالب بتقليلها رغم تأكيدات الحكومات المتعاقبة منذ الاحتلال وحتى اليوم بعدم المساس بها متناسين ان الدورة الاقتصادية للسوق العراقية تبدأ من رواتبهم وقدرتهم الشرائية فهم المحرك الاساسي لحركة الاقتصاد العراقي.
وتتناسى الاجهزة السياسية ايضا سوء وعدم كفاءة ادارة أموال وثروات العراق وعدم السعي لتنويع مصادر الاقتصاد العراقي والاعتماد على النفط فقط. كما يتغاضى المسؤولون في الدولة عن رواتب وامتيازات الدرجات الخاصة والمسؤولين والبرلمانيين التي اثقلت خزينة الدولة طوال السنين الماضية وما زالت, وهذه الامتيازات هي خلاف ما متعارف عليه في جميع دول العالم.
فالعراق هو البلد الوحيد الذي يتقاضى فيه اعضاء البرلمان رواتب ومخصصات ورواتب تقاعدية تفوق عشرات المرات ما يتقاضاه الموظف البسيط وهي لا تخضع حتى لسلم رواتب الموظفين الحكوميين. كما تتناسى الحكومة الموارد المالية المسكوت عنها والتي ذكرت في النقطة الاولى وكذلك الاموال المنهوبة والمسروقة من قبل الفاسدين والتي يمكن ان تساهم وربما تسد العجز المالي للدولة العراقية لسنوات عديدة قادمة.