- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
نجل الحسن (لا يقتل عمي وأنا حي)
بقلم / مجاهد منعثر منشد
تربى القاسم على يد الإمام المجتبى ثلاثة أعوام , فاحتضنه عمه الحسين، وتولى تربيته عشرة أعوام ,فغذاه بمواهبه وأفرغ عليه من ضياء روحه الطاهرة .
. فتى كالقمرفي جمال طلعته وبهائه، وصل مسامعه في يوم العاشر من محرم نداء وصوت عمه : واغربتاه ... واقلة ناصراه ... اما من معين يعيننا؟ اما من ناصر ينصرنا؟ اما من ذاب يذب عن بنات رسول الله؟
سارعت الفتية من أبناء الزكي إلى نصرة عمهم والذب عنه، وقلوبهم تنزف دما على ما حل به من عظيم الكوارث والخطوب؛ حتى استشهد اثنان وقطعت يد أخرمن أولاد الحسن الاربعة .
والقاسم الذي لم يبلغ الحلم لايخيفه استشهاد كل أصحاب الحسين وأخوته وأبناء عمومته ولا يرهبه كثرة معسكر الأعداء , فيقول : (لا يقتل عمي وأنا حي)!
هرول الفتى وانكب على قدمي عمه يقبلهما ويتوسل إليه أن يأذن له في القتال . وضع الإمام الحسين يديه على كتفي القاسم ورفعه وقبله في جبينه وهمس في أذنيه: أنت البقية من أخي الحسن. دخلت اللوعة في قلب الصبي وكأنه يكلم نفسه : عمي يخشى أن أقتل وربما يراني صغيرا , عاد إلى الخيمة مكسور الخاطر .
نظرت أمه رمله لوجهه بعد أن سمعت جواب عمه إليه , فأخرجت صندوق زوجها الحسن , ثم نادت ولدها : ولدي قاسم أدن مني . تقرب منها ولدها وقد غلب الحزن على محياه , فدفعت الصندوق ووضعته بين يديه قائلة : هذا أرث أبيك إليك وقد أوصاني أن أدفع إليك لباسه فألبسته ثوب الحسن، فأخذت أمه منطقة الحسن وشدتها في وسط القاسم ورفعت الثوب قليلا ثم أخذت قميص أبيه فألبسته ثم ألبسته عمامة أبيه وقف أمامها فأخذت تبكي بحرقة وألم ولوعة دفعت إليه كتابا مختوما من أبيه قالت له بني قاسم: هذه وصية أبيك الحسن إليك كتبها إليك يوما وهويبكي . تلقفها القاسم متلهفا وفيها خط والده فتحها فاذا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم بني قاسم أنا أبوك الحسن إذا رأيت عمك الحسين يجيرولا يجارويطلب النصرة فلا ينتصرله وحيدا فريد بلا ناصر ولامعين فابذل مهجتك دونه فان أبى وامتنع فأره خطابي هذا فإنه لن يردك ابدا .
سالت دموع القاسم على خديه وبكى بلوعة وحرقة, وأظن قد دارفي خلده: شعرباليتم, وعظيم الفاجعة , والمصاب الذي حل بعمه ذهب مسرعا إلى إمامه الحسين رافعا الكتاب بكفه, أخذه منه الإمام. وكان يعرف خط أخيه , قبله وقرأ ما فيه فأجهش بالبكآء، ثم ضم القاسم لصدره, فبكيا معا حتى أغشي عليهما . انتبه الفتى ليطرق مسامع عمه: يا عماه لاطاقة لي على البقآء وأرى اخوتي وبنوعمومتي مجزرين على الرمضآء، وأراك وحيدا فريدا.
رد الحسين: يا ولدي أتمشي برجلك للموت؟
ـ وكيف لا يا عم وأنت بين الأعداء وحيدا فريدا لم تجد ناصرا ولامعينا روحي لروحك الفدآء ونفسي لنفسك الوقآء .
أردف عمه بسؤال: بني قاسم كيف تجد الموت؟
أجابه الغلام كصاحب بصيرة: في سبيلك ياعم أشهى من العسل . بعد إجابة القاسم ووجد فيها النضوج والبصيرة , أذن له بالقتال , ناداه: حبيبي قاسم هلم إلي أذا هو عمه من جديد دنا منه فأخذه الحسين ضمه إلى صدره قبل ما بين عينيه تناول الحسين عمامة القاسم قسمها نصفين وأدلاها على وجهه وأخذ ثوب القاسم فشقه وأداله على ابن أخيه كهيئة الكفن و كأن الحسين تيقن أن القاسم مقتول لامحالة . فما لبث عمّه الحسين إلاوثارثورة الضرغام بيده السيف وعليه قميص وإزاروفي رجليه نعلان ، جعل يمشى بين صفوف الأعداء ويضرب بسيفه، مستخفاً بالموت غيرآبه بالجمع كما يفعل الرجال الصناديد ولكن انقطع شسع نعله اليسرى فأنف أن يحتفي في الميدان وهو ابن أعظم الأنبياء فوقف يشد الشسع، وهو يرتجزويقول :
ان تنكروني فأنا نجل: الحسن
سبط النبي المجتبى والمؤتمن
هـذا حسين كألاسيرالمرتهن
بين قوم لاسقوا صوب المزن
وأنف سليل النبوة والإمامة أن تكون إحدى رجليه بلا نعل فوقف يشده متحديا لهم، واغتنم هذه الفرصة كلب من كلاب ذلك الجيش وهو عمرو بن سعد الأزدي فقال : والله لأشدن عليه، فأنكر عليه ذلك حميد بن مسلم، وقال له : سبحان الله !! وما تريد بذلك، يكفيك هؤلاء القوم الذين ما يبقون على أحد منهم ... فلم يعن الخبيث به، وشد عليه فضربه بالسيف على رأسه الشريف فهوى إلى الأرض كما تهوي النجوم صريعا يتخبط بدمه القاني.
نادى الغلام بأعلى صوته : يا عماه أدركني. سمع الإمام هذا النداء فتقطع قلبه وفاضت نفسه أسى وحسرات، وسارع نحو ابن أخيه فعمد إلى قاتله فضربه بالسيف، فاتقاها بساعده فقطعها من المرفق، وطرحه أرضا، وحملت خيل أهل الكوفة لاستنقاذه إلا أن الأثيم هلك تحت حوافرالخيل، وانعطف الإمام نحو ابن أخيه فجعل يوسعه تقبيلا والفتى يفحص بيديه ورجليه كالطيرالمذبوح ، وجعل الإمام يخاطبه بذوب روحه : بعدا لقوم قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك، عزوالله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أويجيبك فلاينفعك صوت، والله هذا يوم كثرواتره، وقل ناصره. وحمل الإمام ابن أخيه بين ذراعيه، وهو يفحص بيديه ورجليه، حتى فاضت نفسه الزكية بين يديه، وجاء به فألقاه بجوارولده عليّ الأكبر، وسائرالقتلى الممجدين من أهل بيته، وأخذ يطيل النظر إليهم وقد تصدع قلبه، وأخذ يدعو على السفكة المجرمين من أعدائه الذين استباحوا قتل ذرية نبيهم، قائلا : ( اللهم احصهم عددا، ولا تغادرمنهم أحداً، ولاتغفرلهم أبدا، صبراً يا بني عمومتي ، صبراً يا أهل بيتي، لارأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً).
طبع العمّ قبلة على جبين ابن أخيه الشهيد، وغادر الخيمة حزينا وقد ترك متاع الحياة الدنيا وضحى بروحه فداءً لعمه الحسين (ع) فالف سلام يوم ولد ويوم يبعث حيا.