عبد الكاظم حسن الجابري
المرور على مدينة الرميثة وذكرها لا يصح أن يكون مرورا عابرا أو ذكرا سطحيا, فهذه المدينة الضاربة جذورها في عمق التاريخ, لا بد وأن نستجليها بشيء من التوضيح, لما تملكه من ثقل تاريخي وسياسي ومجتمعي, ونحن هنا بصدد المرو على الرميثة بما نستطيعه من قول, وبما تسمح به الكلمات في ثنايا المقال رعاية للاختصار, آخذين بالاعتبار بان ما لا يدرك كله لا يترك جُلُّه.
تمثل الرميثة الواقعة على بعد 25 كم شمال مدينة السماوة –مركز محافظة المثنى- رمزية كبرى في وجدان الشعب العراقي فهذه المدينة العابرة للتاريخ, والتي تضم في مساحتها اكثر من 35 موقع اثري تعود للعصور البابلية والاشورية وعصور ما قبل الإسلام, رسمت صورة مشرقة في بناء وجه العراق الجيد, وكان لها دورا محوريا في مقاومة المحتل البريطاني الغازي بداية القرن المنصرم.
تعد الرميثة المدينة الأولى التي انطلقت منها شرارة ثورة العشرين في 30/6/1920 بعد اعتقال الشيخ شعلان ابو الجون رئيس عشيرة الظوالم, وابدت هذه المدينة بسالة منقطعة النظير في دك حصون المحتل, وإيقاع أكبر الخسائر في صفوفه, وبقيت اهزوجة ثوار وأبناء عشائر السماوة خالدة إلى يومنا هذا بهتافها "الطوب احسن لو مكَواري" هذه الثورة جعلت المحتل يعيد حساباته في العراق, وأفضت إلى بناء الشكل السياسي للعراق الجديد.
لم ينتهِ دور الرميثة عند هذا الحد, ولم يخبو بريقها, فقد بقيت هذه المدينة شعلة لكشف انحرافات الحكومات المتعاقبة في ظل الملكية, وإن الرميثيين قد نبهوا الحكومات بان ما بنوه بدمائهم لا يمكن أن يكون نهبا لعصابة من بعض الاغوات والذوات الطبقيين.
على اثر الفساد السياسي والفساد الحكومي والطائفية المقيتة, ونظرا لقسوة الحكومة المشكلة عام 1935 برئاسة الطائفي البغيض ياسين الهاشمي, انطلقت في الرميثة بتاريخ 6/3/1935 ثورة عرفت بثورة الرميثة الاولى, والتي اشتعلت شرارتها بعد اعتقال الشيخ احمد اسد الله وكيل المرجع السيد ابو الحسن الاصفهاني والذي كان يسكن في مرابع الشيخ خوام العبد العباس شيخ البو جياش وقرار اسقاط الجنسية عنه وترحيله, حيث أن الثوار حاصروا سراي الحكومة المتكون من 90 شرطيا و13ؤ موظفا حكوميا, وجاء وزير الداخلية رشيد عالي الكيلاني بالطائرة لاستطلاع الوضع فسقطت طائرته ولم يصب بأذى.
ثم عمدت حكومة ياسين الهاشمي إلى تحشيد قوات من الجيش من الديوانية والحلة والسماوة, وأسندت قيادتها إلى آمر اللواء بكر صدقي, وأسندت القوات بطائرات حربية قصفت الثوار, وتم اعلان الأحكام العرفية بإرادة ملكية وتوقيع رئيس الوزراء الهاشمي ووزير الدفاع جعفر العسكري وتعطيل القوانين, وقد احتجت المرجعية الدينية في النجف على إجراءات الحكومة ورفعت مذكرة بذلك الى الملك غازي.
لم تهدأ الرميثة وبقيت علاقتها متوترة مع الحكومة, فهذه المدينة تملك من عزة النفس الكثير, ولما فرضت الحكومة التجنيد الإلزامي رفض أبناء العشائر عموما وعشائر الرميثة خصوصا ذلك, كما إن الحكومة أصدرت أمرا بمنع المجالس الحسينية ومواكب اللطم ولبس السواد, مما أثار حفيظة أبناء عشيرة الظوالم, فانطلقت ثورة كبرى فيها بتاريخ 21/4/1936 سميت بثورة الرميثة الثانية, وتكرر نفس مشهد القمع من الحكومة بقيادة بكر صدقي وجعفر العسكري ورشيد عالي الكيلاني, وامعنت الحكومة في أحكامها العرفية, وتم دفن وتغيب كثير من أبناء الرميثة في مقابر جماعية, ونفي كثير من المشايخ إلى خارج الرميثة.
بقيت الرميثة رمزا للجهاد والتضحية, ومن لسان أحد أبناءها انطلقت أجمل قصائد المقاومة والولاء لآل البيت عليهم السلام, حيث صدح صوت أبناها البار الحاج الشيخ ياسين الرميثي رحمه الله بقصيدة "يحسين بضمايرنا" والتي اصبحت قصيدة ملهمة للثوار والاحرار ومقاومة الطغاة, وكان للرميثة قصب السبق في الانتفاضة الشعبانية المباركة بقيادة أبناء الشيخ المجاهد شعلان أبو الجون.
الرميثة تعيش اليوم وضعا خدميا واقتصاديا مزريا, ويبدو أن الحكومات المتعاقبة من الملكية إلى يومنا هذه قد استهدفت هذه المدينة نتيجة لتاريخها الجهادي, فجعلتها دون خدمات ودون تنمية ودون مشاريع صناعية لتشغيل ابناءها.
استغل بعضهم هذا الواقع المزري فاخذ يطعن بالرميثة, وقام بعض الاعلاميين بعمل فيديوات تظهر نساء الرميثة بمنظر البائس, وعمد بعض السياسيين من الذين كانوا يمثلون جهات هي سبب في ما وصلت اليه الرميثة يتاجرون بآلام هذه المدينة المؤمنة المجاهدة.
الحقيقة التي نستشفها من ما نراه هو إن هناك حركة ممنهجة لتخريب أي إرث تاريخي وجهادي لمدن الوسط والجنوب, وبالخصوص مدينة الرميثية, حيث يعمد الحاقدون الى صبغ المدينة بصبغة الذل –وحاشا للرميثة ذلك- لكي يمسخوا تاريخها المشرف الذي كسر شوكة المحتل البريطاني واذل الطائفين وحطم مشاريعهم.