- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
مطر وموتى ..عن الشامتين بالموتى
بقلم:علاوي كاظم كشيش
في الجبهة هطل المطر بغزارة لمدة ثلاثة أيام عام 1987.غرقت مواضعنا.وأحاطنا الوحل من كل مكان.وصار المشي صعبا جدا اذ أن تربة قاطع مجنون مزيجية لزجة تجعل الوحل الثقيل يعلق ببساطيلنا فنضطر الى أن نرفس لنسقطه عنها كل عشر خطوات حينما نمشي.
وكانت بالقرب منا مقبرة صغيرة لقتلى معارك سابقة.كشف المطر العظام والأشلاء والملابس المتهرئة فيها.لم نكن نعرف بالضبط هل هي رفات لجنود عراقيين أم ايرانيين أم هي خليط منهم.
ذهبت الى مقر الكتيبة التي كنا ضيفية عليها لتسليم موقف مدافعنا والعتاد.كان كل شيء واجما وهادئا إذ لم نسمع صوت قذيفة منذ ثلاثة أيام.مدافعنا مغطاة والدبابات منزلة عن الساتر تقبع مثل جواميس ميتة.ومن هنا وهناك اسمع ضحك وصراخ وغناء للجنود من المواضع التي أمر عليها في طريقي.
وانا أمشي على أعلى الساتر لمحت جنديا من مقر الكتيبة قد وقف على تلك المقبرة الصغيرة وبال على العظام والرفات.كان حزبيا متحمسا جدا ويجيد كتابة التقارير والتجسس على الجنود .كان أصفر الوجه حقودا ،لا صفة طيبة فيه ومكروها من قبل الجميع الا آمر الكتيبة والضباط.
هالني المشهد كثيرا.كتمت غضبي ومنعت نفسي من توبيخه او عتابه لأني أعرف أني سأتكلم مع دابة لا مع بشر وربما يجلب لي ما انا في غنى عنه.وفي طريق عودتي انتظرت حلول الظلام .وقلت لجماعتي مؤيد وماجد.هل سمعتم بما فعل هذا الحقير؟ قالا: نعم. قلت: الآن أحتاج أحدكم ليساعدني في دفن المقبرة. امتنعا عن مساعدتي وتحججا بأن الأمر غير مقبول ويجلب لهما مشاكل مع رجال الحزب والاستخبارات ونصحاني باكمال ترتيب يطغي وحاجياتي التي غطاها الماء.أما كتبي فقد كانت معلقة على رف من صندوق عتاد ولم يصلها الماء.
حل الظلام، فأخذت الكرك وذهبت الى المقبرة الصغيرة، وبمصباحي الصغير القيت نظرة على المقبرة.كان مشهد هاملت وهو يتحدث مع الجمجمة التي لا يعرفها هل هي لتاجر ام لإنسان فقير ام لملك أم لمهرج ام لـغيره، قد سيطر على ذاكرتي......، كنت في مثل حيرته لكني احسن منه في شيء واحد هو أني أعرف أن هذه الرفات كلها لجنود قتلوا في معركة سابقة.ولم أعر اهتماما لكونهم عراقيين أم ايرانيين.فالأمر أمام الموت يكون مجردا من الزيادات كلها،وهو أمر سواء.قرأت الفاتحة، وبدأت في دفن الرفات المبعثرة.عظام مفككة وجماجم وأجزاء من سيقان وأذرع وقفص صدري ناتيء.وبدا لي أن المقبرة نالت قسطا من القذائف اثناء القصف وسبقني من غطاها بالتراب لأنها قريبة على مقر الوحدات السابقة ومواضع الجنود.
بعد ما يزيد على الساعتين أكملت عملي وعدت الى موضعي،أيقنت تماما أن الحروب تحول النوع الانساني الكريم الى نفايات،وهي حروب خاسرة ،والانتصار كذبة كبيرة أمام الثمن الفادح الذي تدفعه الأمهات قبل الجنود. عدت متعبا وقد استبد بي العطش والجوع ولكني أشعر بإشراقة في روحي.وفرحت كما اعتدت بعد كل عمل أجد فيه نفسي التي لا تقبل الترويض.وأيقنت أن هذا الصراع الذي يصنعه الحكام والسياسيون لا يستعبدني ولا يتغلغل الى روحي وانسانيتي،وأني خلقت للاشراق والجمال.كنت حرّ القلب والفكر تماما.ولكني عند الآخرين جندي لا أكثر.
كان مؤيد قد أعد لي عشائي من أرزاق المعركة الجافة.علبة مرق فاصوليا وخبز مربع يشبه البسكويت الصلب جدا وفيه رائحة عفونة.أكملت عشائي ورنّ الهاتف العسكري.أجاب مؤيد بكلمتين: نعم...تبلّغ سيدي. وقال لي،وعلامات الاضطراب بدت على وجهه بسرعة : نقيب فاخر يطلبك فورا !.ونقيب فاخر هذا أحقر ما خلق الله .متسلط متجهم الوجه ،الحزب أبوه والثورة أمه،والقائد نبيه الذي لا يعرف سواه،وأما الله فهو عرضة لسبابه والكفر به دائما.وهو مسؤول الكتيبة الحزبي وضابط أمنها.
استقبلني المراسل في مقر الكتيبة وهو صديقي ادمون ايليا وأنا أنفض الطين اللزج عن بسطالي،كنا قبل أيام قد أكملنا رواية عاصفة الأوراق لماركيز وضحكنا على تفاصيل فنطازية فيها ومفارقات كثيرة،منها أن جد ماركيز دعا طبيب القرية الجديد الى العشاء، فقالت له سيدة البيت:ماذا يحب سيدي أن أعد له على العشاء؟.فقال الطبيب جادا: برسيم! من هذا الذي تتعاطاه الحمير.وكان أدمون يدعوني الى العشاء البرسيمي كما يسميه، عدة مرات.وهو ماهر في الطبخ جدا.
سبقني النائب ضابط داوي الأعور،وهذا الآخر لم يمر عليه يوم رحمة من الله ولا بركة ، يفرح جدا اذا تسبب بعقوبة لأي جندي قميء متملق ذليل دنيء،كان يبيع يوم الاجازة بخمسة دنانير وهو الوسيط بين الآمر الرائد محسن وبين الجنود.دخلت ملجأ النقيب فاخر،أديت التحية،ووقف نائب ضابط داوي خلفي.ولمحت شبحه في صورة القائد الضروقة المعلقة خلف النقيب ،وهو يقول:سيدي علاوي كشيش خوش ولد.بينما هو يحرك كفه اليمنى بالنفي.وهذا شيء بارع في علم الاشارة لا أدري كيف ابتكره داوي الأعور.
ـ أنت من كربلاء؟. سألني النقيب فاخر.
ـ نعم سيدي
ـ واليوم حنّيت لأصلك الفارسي مو؟.ودفنت رفات هؤلاء الـ.....
ـ لا سيدي، الأمر ليس كذلك.
ـ كيف يعني؟
ـ انا عربي،وكربلاء مدينة عراقية عربية وفيها عشائر طيبة،ويكفي أن الحسين عربي ،وحسب ما تعلمنا في الجيش اننا ندفن أي مخلوق ميت قرب قاطعنا. انسانا كان أم حيوانا ، حفاظا على صحتنا و نظافة القاطع.
ـ أي يابه؟
ـ ومن الآداب المعروفة أن يحترم الانسان عدوّه ولا يشمت به إن كان ميتا أو مهزوما.وجيشنا كما علمتمونا جيش عقائدي وليس جيش قتلة.والجيش مؤسسة أخلاقية وليست عسكرية فقط.
ـ آها
ثم قدم لي ورقة وطلب مني أن اكتب هذا الكلام،ولأني أحمل معي دائما قلما ودفترا صغيرا.لم أطلب منه قلم. كتبت ما قلت ووقعت ،فسحب الورقة باشمئزاز،وقال:
ـ راح نشوف هذا كلامك ينفعك باستخبارات الفيلق لو لا.إلاّ أخليهم يسوون (عيـ...ك) حبل.إنصرف.
خرجت من الملجأ. قال لي أدمون: لا تخاف علاوي.آني وصلت خبر لصديقي ضابط استخبارات الفيلق.
بعد أيام وصل أمر الى الكتيبة أن أتمتع بإجازة لمدة أسبوع.وحين التحاقي بعد الاجازة، وجدت أن النقيب فاخر قد نقل الى كتيبة أخرى.
وتعلمت أن الأصفر يظل أصفر والبشع بشعا،وتكون لذته في الشماتة بالموتى ويعيش محروما من النبل والرجولة.
أقرأ ايضاً
- انها تمطر صواريخ
- الكاظمي بين مطرقة المستشارين وسندان المتربصين !؟
- تحسين المعدل.. نظام وحلم يتحطم بين مطرقة الوزارة وسندان الفقر