- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
ما أشبه اليوم بالبارحة .. سياسة الاستكبار الامريكي في العراق - الجزء الاول
بقلم: د. محمد علي الجزائري
1- مدخل
لقد تعرض العراق وشعبه الى جملة من المصاعب والنكبات والتحديات المتمثلة بالسلطة الغاشمة للنظام الصدامي البائد والحروب التي اشعل فتيلها والحصار الدولي والمجاعة تحت اشراف الامم المتحدة والارهاب المحلي والاقليمي والدولي، كل ذلك خلال فترة طويلة تجاوزت عمر جيل باكمله. فمن حملات القمع والتهجير وارهاب السلطة منذ سبعينيات القرن الماضي الى حرب عام 1990-1991 التي احرقت فيها امريكا الاخضر واليابس وعرضت الشعب العراقي للمجاعة والامراض والتجهيل والتغريب والحصار وهدمت المصانع والمعامل ومحطات تصفية مياه الشرب ومحطات معالجة مياه الصرف الصحي ومحطات الكهرباء والجسور وعطلت دور التعليم والمنظومة الصحية والكثير الكثير من البنية التحتية.
وزادت الادارة الامريكية بغزو عام 2003 بتركيزها على تدمير الطبيعة الانسانية والخلفية الفكرية والاجتماعية والبيئة الطبيعية حيث قامت بتلويث ماء وهواء وتربة العراق باليورانيوم المنضب وبالاسلحة المحرمة دوليا وعملت بجد وتخطيط شيطاني لهدم البناء الفكري والنظام الاجتماعي والتلاحم الوطني السائد ما بين ابناء الشعب العراقي ونشر الفساد السياسي والاجتماعي والثقافي في العراق وسرقة ثرواته وتشجيع الافكار الضالة والمنحرفة ومحاربة الافكار الإسلامية والدين. كل ذلك من اجل ارجاع العراق الى الوراء وتمزيق وحدة ارضه وشعبه وتقسيمه الى دويلات مذهبية وقومية لغرض السيطرة على جميع مقدرات العراق واعاقة مشاركته في ركب الحضارة الانسانية وجعله ضمن حلقة الدول الراكعة للاستكبار والخانعة لهيمنة الكيان الصهيوني. ونتيجة لهذه السلسلة الطويلة من الضربات الموجعة والانتكاسات المتتالية اصبح العراق وشعبة في مواجهة تحديات مصيرية جسام اجتمعت عليهم فيها ظروف الطبيعة وقلة وعي المجتمع ومكر المحتل وحقد السياسة الاستعمارية والتخطيط الماكر لدول الاستكبار والمشاركة والتنفيذ الاعمى لدول الحقد الطائفي.
2- وسائل الوصول إلى الاهداف
لقد اعتمدت الادارة الامريكية وحلفائها على عدد من الوسائل للوصول الى الاهداف الخبيثة التي رسموها ومن هذه الوسائل التي تم الاستعانة بها يمكن الاشارة الى :
أ- الحروب والارهاب والجماعات الارهابية
لقد عانى العراق والانسان العراقي من ويلات حروب عديدة في تاريخه الحديث مهد لها ودفع اليها الاستكبار العالمي وبالخصوص الادارة الامريكية. ففي عام 1980 شن النظام الصدامي البائد الحرب على ايران بمباركة ودعم وتشجيع امريكي وبمساندة بعض الدول الخليجية من اجل وأد الثورة الإسلامية الوليدة في ايران ومنع انتشار الفكر الثوري ضد الانظمة القمعية والقبلية في المنطقة والابقاء على مصالح الدول الاستكبارية. واستمرت هذه الحرب المدمرة مدة (8) سنوات كلفت ما يقارب (500) مليار دولار للاقتصادي العراقي ومثله للاقتصاد الايراني فضلا عن الدمار الهائل للبنية التحتية والخسائر البشرية وافواج المعوقين والايتام والارامل. بعدها قام النظام الصدامي البائد في عام 1990 بالدخول الى الكويت بضوء اخضر من الادارة الامريكية وتم اخراجه منها بعد عدة اشهر في عام 1991 من قبل التحالف الدولي بقيادة امريكا نفسها ومشاركة عدد من الدول الغربية والعربية. ثم جاء غزو العراق من قبل الجيش الامريكي والبريطاني عام 2003 من دون تفويض من مجلس الامن بعد التمهيد للحرب بشن حملة اعلامية ضخمة كاذبة وملفقة. وقد تركت هذه الحروب والصراعات بصمات سلبية واضحة وعميقة جدا على العراق وبنيته التحتية في كافة المجالات وعلى الانسان العراقي وطريقة تفكيره ونظرته للحياة وعلى تركيبة المجتمع العراقي.
وما لم تستطع الحروب تدميرة من البنية التحتية قامت بعمله داعش ممثلة للجماعات الارهابية المحلية والاقليمية والدولية فالحروب والارهاب وجهان لعملة واحدة تقف خلفهما نفس الجهات الداعمة والممولة. حيث تقف دول الخليج العربي والسعودية وبعض الدول الاقليمية في مقدمة الدول الممولة للارهاب بالمال والسلاح والمعدات والاعلام وتضطلع الادارة الامريكية بدور المجهز للسلاح والمؤيد والمدافع السياسي وواضع الخطط والاستراتيجيات العسكرية للمجموعات الارهابية وتشارك اسرائيل وبعض الدول الاقليمية في معسكرات التدريب وتوريد السلاح والتخطيط والعناية بجرحى الارهابيين.
ب- الحصار الدولي
متعللة بالعديد من المبررات الكاذبة قامت الادارة الامريكية بفرض حصار دولي ظالم وشامل على العراق وشعبه لمدة (13) عاما امتدت للفترة ما بين (1990 – 3003) شملت جميع مرافق الحياة الاقتصادية والزراعية والتعليمية والصحية والفكرية والتجارية وقد أدى هذا الحصار إلى تداعيات خطيرة على المجتمع العراقي وبنيته الفكرية والاجتماعية وعلى البنية التحتية العراقية والاقتصادية والعلمية والزراعية والصناعية والصحية ما زالت نتائجها بادية للعيان حتى الآن. وبالرغم من فشل الحصار في تحقيق أهدافه التي أعلنت عنها الأمم المتحدة وهي معاقبة النظام الصدامي واسقاطه إلا إن الإدارة الأمريكية أصرت على الاستمرار فيه لزيادة معاناة الشعب العراقي معللين ذلك (بأنه لم يكن هنالك حل آخر أفضل منه) كما قال ذلك ممثل أمريكا في وقتها في الأمم المتحدة توماس بكرنك (Thomas Pickering).
لقد بدأت خلال فترة الحصار جريمة العصر التي راح ضحيتها ما بين نصف المليون والمليون طفل عراقي ومثلهم أو أكثر من الشيوخ والنساء والرجال بسبب نقص الدواء والمعدات الصحية وقلة الغذاء والمواد الضرورية وشحة المياه الصالحة للشرب وانتشار الأمراض والأوبئة مما يعد انتهاكا صارخا للكثير من المعاهدات والمواثيق الدولية التي تم الاتفاق عليها من قبل المجتمع الدولي في الحفاظ على ارواح المدنيين وحقوقهم الاساسية في حالة الحروب.
نشير إلى إن جميع الخبراء متفقون على إن الحصار الدولي الشامل الذي فرض على العراق من عام 1991 إلى عام 2003 لم يؤدي الغرض المطلوب منه وإنما أدى إلى نتائج معاكسة تماما لما كانت تسعى له الأمم المتحدة فقد ساهم الحصار في تقوية النظام الصدامي حيث أصبح توزيع الحصص الغذائية التي يقوم بها وسيلة أخرى لإدامة قبضته الحديدية على الشعب العراقي وسيطرته الكاملة على الاقتصاد العراقي.
ج- الأسلحة الحاوية على اليورانيوم المنضب
لقد كان استعمال العتاد الحاوي على اليورانيوم المنضب لأول مرة في الحروب وبهذه الكمية الكبيرة خلال حرب عام 1991 وأثناء غزو العراق عام 2003 من قبل القوات الامريكية بالخصوص. حيث بلغت كمية العتاد الأمريكي الحاوي على اليورانيوم المنضب (300) طن مكعب خلال حرب عام 1991. أما الكمية التي استعملها الجيش الأمريكي في غزو العراق في عام 2003 فهي غير معروفة بالضبط غير أن تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة نشر عام 2007 يقدر الكمية ما بين (170) إلى (1700) طن مكعب من اليورانيوم المنضب. وحسب تقرير المجلس الوطني الفرنسي الذي نشر عام 2001 فأن الطائرات الأمريكية أطلقت (850950) قذيفة حاوية على اليورانيوم المنضب خلال حرب النفط عام 1991 أما سلاحها الأرضي فقد أطلق (9552) قذيفة حاوية على اليورانيوم المنضب هذا مع العلم بان العتاد الحاوي على اليورانيوم المنضب يعتبر من الاسلحة المحرمة دوليا.
واليورانيوم من العناصر المشعة وتصدر عنه اشعة الفا بشكل اساسي.وتسمى هذه الأشعة بالأشعة المؤينة كونها ذات طاقة عالية جدا وقوية لدرجة تكفي لتأيين جزيئات الهواء أو المادة التي تخترقها وبالتالي فان هذه الإشعاعات قادرة على إتلاف وتدمير الخلايا الحية التي تصيبها. وتستطيع الأشعة المؤينة أحداث تغيرات وراثية للخلية الحية أو قتلها أو دفعها لتصبح خلايا سرطانية.
وقد تظهر تأثيرات الاشعة المؤينة سريعاً وخاصة في حالات التعرض لتراكيز عالية من الأشعة وتشمل الأعراض المرضية الغثيان والتقيؤ وفي بعض الأحيان ارتفاع في درجة حرارة الجسم مع انخفاض حاد في عدد خلايا الدم مرورا بالتعب الشديد والحمى والقشعريرة مع تقرحات في تجويف الفم وتنتهي بالموت المحتم.
وقد تظهر الاعراض بعد فترة طويلة من التعرض للأشعة تمتد من عدة سنوات والى عشرات السنين ويمثل مرض السرطان إحدى نتائجها الأساسية. اما الأمراض غير السرطانية فتشمل بطئ النمو وقصر العمر وكثافة عدسة العين وضعف المناعة.
كما تحفز الاشعة المؤينة ظهور الامراض الوراثية وهي التغيرات التي تصيب ذرية الشخص المتعرض للأشعة حيث تحدث الأشعة المؤينة أضرارا مختلفة بالتركيب الوراثي للخلية مثل الشذوذ في عدد الكروموسومات وإتلاف تركيبها وعمل الطفرات الوراثية فيها. إن الشذوذ الحاصل في عدد كروموسومات الخلايا التكاثرية يؤدي في الغالب إلى الإجهاض فهذا التغيير غير مناسب لتطور البويضة.
اضافة إلى الاضرار والامراض التي ذكرت في اعلاه فأن للاشعة المؤينة تأثير مباشرة على نمو وتطور الجنين خلال فترة الحمل. إن تعرض المضغة أو الجنين للأشعة المؤينة يمكن أن يؤدي إلى ظهور وتطور بعض الأمراض التي تشمل اختلال النمو والتخلف العقلي والتشوهات الخلقية للهيكل العظمي والعين والمخ وتؤدي في حالة التراكيز العالية إلى موت الجنين مباشرة أو إلى زيادة نسبة الوفيات لدى الأطفال حديثي الولادة أو بعد هذه المرحلة. كما إن تعرض الأجنة للأشعة المؤينة يزيد أيضا من نسبة ظهور مرض سرطان الدم لديهم.
لقد استعملت الادارة الامريكية العراق والشعب العراقي كحقل تجارب لعتاد اليورانيوم المنضب المحرم دوليا خلال حرب عام 1991 وبالخصوص عام 2003 ولوثت به الانسان والتربة والهواء والماء والنبات وهي على معرفة تامة بمضاره الصحية العديدة والفتاكة وتسببه بامراض من ضمنها مرض السرطان وتشوه الاجنة.
د- برنامج النفط مقابل الغذاء
يعد برنامج النفط مقابل الغذاء الذي وضعته الامم المتحدة واشرفت عليه بالكامل من اكبر فضائح الفساد المالي والتلاعب باموال الدول الضعيفة في العصر الحديث من قبل منظمة دولية تابعة للامم المتحدة. لقد جاء البرنامج نتيجة لقرار مجلس الامن المرقم (986) الصادر في 14نيسان من عام 1995 وكان من المفترض ان يكون هذا البرنامج برنامجا انسانيا لمساعدة الشعب العراقي وتجاوز محنة شحة الغذاء والدواء والمواد الضرورية اثناء فترة الحصار عن طريق السماح للعراق ببيع كميات محدودة من النفط تحت اشراف الامم المتحدة لشراء احتياجات الشعب العراقي من الاغذية والادوية والمواد الضرورية الاخرى حيث سمح للعراق في حينه بتصدير ما قيمته (مليار) دولار لكل (3) اشهر في بداية عمل البرنامج ثم تم زيادة الكمية المسموح ببيعها بعد ذلك. وقد كان لامريكا دور اساسي في تحديد المواد التي يمكن شرائها من عدمه فمثلا منعت استيراد العراق لمادة الكلور اللازمة لتعقيم المياه وعللت ذلك بامكانية استعمال الكلور للاغراض العسكرية والمدنية مما جعل من تلوث المياه احد الاسباب المهمة لوفيات الاطفال في العراق.
لقد تعامل برنامج النفط مقابل الغذاء بأموال هائلة تصل حسب بعض المصادر الى (100) مليار دولار من اموال الشعب العراقي. وقد استغلت الامم المتحدة وموظفيها على جميع المستويات وجود اموال عراقية هائلة تحت تصرفها من اجل تبذيرها والعبث والتلاعب بها من دون رقيب وحرمان شريحة واسعة بل كل افراد الشعب العراقي من الاستفادة منها وهذا بمعرفة الدول الدائمة العضوية في مجلس الامن ومنها امريكا.
وقد خصصت الامم المتحدة مبلغا يعادل (30%) من هذه الاموال من اجل دفع تعويضات مالية للاشخاص واصحاب الاعمال والمؤسسات والدول التي اعتبرت نفسها متضررة من دخول النظام البائد الى الكويت عام 1990. واستمر البرنامج حوالي (6) سنوات ونصف (من عام 1996 ولغاية عام 2003) حيث تم تعديل العمل به بعد غزو العراق ولكن من دون توقيف دفع التعويضات التي ما زالت مستمرة لحد الان حيث فرضت لجنة التعويضات في وقتها ان يدفع العراق مبلغا قدره (52,4) مليار دولار كتعويض للحكومات والشركات والمنظمات الحكومية والافراد (ما يقارب 1,5 مليون من الجهات المشتكية). ورغم ما دفعه العراق للكويت من تعويضات منذ عام 1996 فانه ما زال بذمته للكويت مبلغا قدره (4) مليار دولار.
هـ- استعمال القوة ووسائط الضغط المختلفة
وهذا الاسلوب هي الطريقة الاكثر تأثيرا وعمقا في اللعب بمصائر الشعوب الذي تحاول الادارة الامريكية من خلاله الهيمنة على كافة جوانب الحياة في العراق منذ العام 1991 وزادت من هذه الهيمنة بعد غزو العراق عام 2003 وما زالت مستمرة بذلك حتى الان باساليب وطرق مختلفة. فالادارة الامريكية هي التي اوصلت النظام الصدامي الى سدة الحكم في العراق وهي التي دفعته لاشعال الحرب مع ايران طوال ثمانية اعوام وهي التي اوجدت نظام المحاصصة الطائفية والقومية الحاليفي العراق من اجل زعزعة الاستقرار السياسي وخلق صراعات داخلية تمنع نهوض العراق وتقدمه وازدهاره.
لقد استغلت الادارة الامريكية قوتها العسكرية وهيمنتها الاقتصادية التي تتمتع بها ابشع استغلال من اجل تحقيق مصالحها على حساب مصالح الشعوب والدول الضعيفة. فمرة تلوح بالعصى الغليظة والتدخل العسكري ومرة اخرى بالحصار الاقتصادي والمالي ومرة ثالثة بتلفيق التهم وكيل الاكاذيب وتشويه الحقائق او بتجنيد بيادقها من اجل القيام بما تراه مناسبا لتحقيق مآربها واطماعها. ان امريكا هي احدى الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الامن وهي بهذا المركز تمتلك حق النقض (الفيتو) الذي تستعمله دائما في الدفاع عن الجرائم الصهيونية كما تستخدمه ايضا في الضغط على الدول الفقيرة لدفعها للوقوف الى جانبها اذا ما ارادت تلميع صورتها كدولة تحترم قررات الامم المتحدة ومجلس الامن ولكن عندما تشعر بعدم قدرتها على تنفيذ مخططاتها من خلال مجلس الامن تتصرف بشكل منفرد ضاربة عرض الحائط قررات الامم المتحدة كما فعلت في غزوها للعراق عام 2003 من دون موافقة الامم المتحدة.
ان الادارة الامريكية تعمل دائما على تحقيق مصالحها الوطنية دون أي اعتبار لبقية الدول وخاصة الضعيفة منها فهي التي منحت الضوء الاخضر للنظام الصدامي لاحتلال الكويت وهي نفسها التي حاربته واخرجته منها. وهي التي اخترعت كذبة امتلاك العراق لاسلحة الدمار الشامل وشعار تحرير العراقيين وهي التي فرضت الحصار الظالم على العراق وشعبه لاكثر من (13) عاما.
كما تدعي الادارة الامريكية الان محاربة داعش الارهابي في العراق ولكنها تساعده في سوريا وعلى الحدود مع العراق. كما تقوم في نفس الوقت بضرب القوات المسلحة العراقية وقصف ومهاجمة الحشد الشعبي وتدمير معسكراته ومخازن عتاده واغتيال قياداته وتحاول عرقلة جهوده العسكرية في محاربة داعش الارهابي. اضافة إلى اصرار الادارة الامريكية على البقاء في العراق وتوسيع قواعدها العسكرية بحجج واهية رغم تصويت البرلمان العراقي على اخراج قواته العسكرية من العراق وتأييد غالبية الشعب العراقي لهذا القرار.