- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الصين و العراق : مرارات العقود الضائعة في التنمية
بقلم: مظهر محمد صالح
لم تبق الموازنة التشغيلية شيء للاستثمار بسبب الانفلات المالي الذي شهدته البلاد على مدار العقد ونيف الماضيين وما سبقها من عقود من الحروب والصراعات كانت مادتها الأساسية هي هدر الموارد البشرية والمادية باشكالها كافة وإضاعة فرص مهمة في الازدهار الاقتصادي على مدار أربعين عاما خلت.
لذا فالاتفاق العراقي الصيني الموقع بين وزارة المالية العراقية ومؤسسة ضمان الائتمان والصادرات الصينية الحكومية Sinosure في ١١ مايس ٢٠١٨ والملاحق الاساسية الموقعة في ٢٣ ايلول ٢٠١٩ جاءت كلها كمحاولة (توفيراجباري ) باتجاه اعادة هندسة الموارد النفطية صوب استثمار عوائدها في البنية التحتية المادية المتهالكة والنشاطات المنتجة بدلا من الإسراف في ابواب التبذير والصرف الاستهلاكي الحكومي الفائق عبر موازنات سنوية يكون هاجس التنمية فيها في اسفل اهتماماتها .
فالنظرية الاقتصادية تقول ان ١٪ نمو في البنية التحتية يؤدي الى ١،٥٪ نمو في النشاطات الانتاجية المباشرة وهذا ما تفعله الهند اليوم والصين نفسها .
كما يشخص الاتفاق قيداً يتعرض اليه قطاع المقاولات والاستثمار الخارجي في العراق وهو ما يسمى بمخاطر تكاليف العراق وهي هوامش ومعوقات بيروقراطية عالية الكلفة ناهيك عن مظاهر الابتزاز والرشوه والتشغيل الإجباري ودفع الإتاوات.
ان دخول الشركات الصينية للعمل بالعراق من خلال الاتفاق سيوفر بلا شك تعامل مباشر مع جهاز الدولة الفني دون وساطات وابتزازات وسماسرة .
اي انها أواصر عمل مباشرة دون اغطية دخيلة (حكومة مع حكومة gov to gov ) مما سيلغي هامش مخاطر وفساد اوهدر كبيرين في تنفيذ المقاولات الاجنبية داخل العراق حالياً والذي اطلقنا عليه آنفاً بكلفة العراق Iraqi cost والتي تشكل نسبة تبلغ ٤٠٪ كإضافات و تحميلات على كلفة المقاولات الأجنبية داخل العراق ، فضلاً عن اهمية دخول البلاد بعصر الاستخدامات الحديثة لتكنلوجيا التشييد والبناء والاستثمار واصول وقواعد التنفيذ في ادارة المشاريع وتشغيل الاف العاطلين واشاعة دورات تشغيل عالية الفعالية .
وبحكم معاصرتي لمسارات العمل الاقتصادي والانمائي لعقود طويلة في الدولة العراقية ، فيمكنني القول ان العراق هو مازال تحت (الاغطية الخفية) للفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة بإرادات دولية شديدة الخبث ، اذ ثمة من يجد من اطراف المجتمع الدولي الفاعل بان النهوض الاقتصادي التنموي في العراق مازال يشكل خطراً على السلم العالمي (ولو بشكل خجول ومبطن ) وهو بحاجة مستمرة الى حصارات غير مرئية وقمع للتنمية والتشكيك بمبادراته في الاستثمار المنفتح على العالم وتقويض التنمية فيه ولكن باطار دبلوماسي خافت التأثير وتعاطي دولي مهذب الرسائل وصوت داخلي شديد الضوضاء..!!! .
وهناك من يجد ايضاً في الاتفاق العراقي / الصيني ربما هو تحدي شرعي لهذه المعادلة الخفية السالبة في العلاقات الدولية دون ان يدرك كيف اهملت التنمية في العراق بمقاصد خارجية ومساهمات محلية سالبة مختلفة طوال مدة ابتدات منذ نصف قرن مضى.
فالصين اليوم تعد الشريك الاساس في استيراد نفوط العراق ، اذ تستحوذ سوق الصين في الوقت الحاضر على ٢٢٪ لوحدها من اجمالي صادرات العراق النفطية الى العالم وبواقع ٩٠٠ الف برميل يومياً من اصل ٣،٨٨ مليون برميل نفط مصدر يومياً ، وهي تتطلع (حسب معطياتي الشخصية) الى استقرار في إمدادات النفط العراقي الى اسواقها حتى العام ٢٠٦٠ .
في حين تثابر الشركات الصينية حاليا للعمل في صناعة الاستخراج النفطي العراقي .
فهي تمتلك على سبيل المثال خدمات مشتركة مع شركة النفط البريطانية BP في عمليات الجنوب النفطية وبنسبة مساهمة ربما تبلغ ٤٠٪ في حقلي الرميلة الهائلين في البصرة وبطاقة انتاج للحقلين المذكورين تقترب من ١،٥ مليون برميل يومياً .
ناهيك عن دورها في تطوير حقول اخرى مختلفة في وسط العراق وشرقه .في حين تتطلع هذه القوة من الجنس الأصفر لتكون الاقتصاد الاول في العالم وعلى وفق معدلات الناتج المحلي الاجمالي في العام ٢٠٣٠ وتطمح كذلك ان يعادل متوسط دخل الفرد الصيني متوسط دخل الفرد الأوربي بعد خمس سنوات من الان .
و بهذا ستظل الصين تشكل حتماً الصداع المزمن لأمن الولايات المتحدة الاقتصادي ، فالصين مازالت في راس قائمة اولويات ستراتيجية الامن القومي الامريكي في اطار سعيها الحثيث لبلوغ مستوى الاقتصاد الاول عالميًا ، وهي بلاشك امست مصدر قلق مضاف للولايات المتحدة في اطار تصاعد وجودها الشرق اوسطي الحالي واقترابها من اسواق الطاقة وإمداداتها عبر هرمز التي تشكل هي الأخرى ٢٢٪ من إجمالي إمدادات الطاقة في العالم يومياً في منطقة تضم ثلثي المخزون النفطي العالمي، ماجعلت الرئيس الامريكي ترامب يهدد مستهزئًا من مستقبل النفط الزائل وهدر أسعاره ازاء تنامي الطاقة البديلة (ذلك في حديثه على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس مؤخراً)، وربما لايدرك الرئيس ترامب ان الصين مازالت تعمل بمفارقة جيفونز
Jevons paradox في الطاقة وربما ستستخدمها في قواعد لعبتها الاقتصادية الدولية في استعمال الطاقة التقليدية النفطية طوال العقد الحالي الممتد حتى سنة الهدف ٢٠٣٠ وما بعده بكل يسر وسلاسة.
ان فشل مشروع التنمية الاقتصادية في بلادنا وعلى مدار ١٦ سنة على الأقل سيظل هاجسنا كأمة في توارث ديناميات الاحباط المستمر وهو مبعث التيه في التحري عن بدائل في الاعمار والتعاون الدولي لتجاوز الخراب في معدلات التراكم راسمالي باشكاله كافة الذي تآكلت هياكله عبر امواج عالية التحدي تبدلت فيها اتجاهات أشرعة السفينة الاقتصادية العراقية المتعبة.
ولم نمتلك في رؤانا الجمعية سوى بوصلة تجسد ضائعات العقود الأربعة للتنمية وفقدان الأمل بين حروب فعلية وحروب صامتة / الحصارات وحروب ناعمة رقمية لئيمة مثلما يحصل اليوم في العراق بكثافة غير معهودة.
فالتشكيك الراهن في مقدرات التنمية (ازاء حالة التفكك في بنية المؤسسات الوطنية والصراع الداخلي على السلطة وادامته بوقود موارد النفط ) سيجعل من الأشرعة الاقتصادية المتعبة للبلاد تتبدل لا محالة ولكن على نحو اسرع هذه المرة مقارنة بالأزمنة السابقة وهي تبحث عن مخارج شديدة الابهام وهي تفاضل مكرهة عن اي دول العالم الخارجي عونا لانقاذ سفينتنا ... و لكن بلا طائل ؟
وأخيرا ، سيبقى التساؤل قائماً في كيف تحزم بلادنا امرها هذه المرة لتوفر بنية تحتية سياسية مستقرة وأمة تنهض من مخلفات تجربة مريرة ظلت متصارعة مع العالم او من اجل العالم وارتسمت فيها مقدرات هوانها على جدران عقودها الأربعة الضائعة الماضية وفقدان محركات التنمية والازدهار الاقتصادي وبناء الإنسان فيها ؟
انها ...الآلام المرة ..... ؟