- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الزهراء... ابتسامة أمل في عالم متأزم
حسن الهاشمي
التفاؤل والتشاؤم ما زالا يتصارعان في حلبة الحياة، وتبقى النفس المطمئنة رهينة التفاؤل، والنفس المتردية رهينة التشاؤم، لا شيء يضيع ملكات الشخص ومزاياه كتشاؤمه في الحياة، ولا شيء يبعث الأمل، ويقرب من النجاح ويُنَمِّي الملكات، ويبعث على العمل النافع لصاحبه وللناس، كالابتسام للحياة.
البناء الديني هو الاساس في التفاؤل بينما البناء المادي هو الاساس في التشاؤم، وعندما نستقرأ التاريخ نجد ان الزهراء البتول عليها السلام انما امتلكت القلوب والابصار لشدة ارتباطها بالخالق المتعال، وهذا الكلام ليس انشاء فحسب، بل شهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لها قائلاً: (إن ابنتي فاطمة ملأ الله قلبها وجوارحها إيماناً إلى مشاشها ـ وهي رؤوس العظام اللينة ـ ففرغت لطاعة الله).
لو خُيَّرتُ بين مال كثير، أو منصب خطير، وبين نَفْسٍ راضية باسمة ـ لاخترت الثانية؛ فما المال مع العبوس؟ وما المنصب مع انقباض النفس؟ وما كل ما في الحياة إذا كان صاحبه ضيقاً حرجاً كأنه عائد من جنازة حبيب؟
هكذا تصبح الزهراء عندما تصوغها العناية الالهية فإنها تستحي من ربها في كل صغيرة وكبيرة، تترفع عن الماديات ترفعها عن القاذورات، تترفع عن التفاهات، تترفع عن كل ما من شأنه ان يعكر صفو الحياة الطيبة، لأنها تتوخى السعادة ولا شيء غيرها في تعاملها مع مفردات الحياة، ليس المبتسمون للحياة أسعد حالاً لأنفسهم فقط، بل هم كذلك أقدر على العمل، وأكثر احتمالاً للمسؤولية، وأصلح لمواجهة الشدائد، ومعالجة الصعاب، والإتيان بعظائم الأمور التي تنفعهم، وتنفع الناس.
انظر الى النفس الابية البعيدة عن السفاسف والترهات والقيل والقال كما هو شأن الكثير منا لابتعادهم عن ذلك النبع الصافي، انظر الى القدوة كيف انه يحوّل المشكلة الى ومضة نورانية ليس انها تنير قلوب اصحابها فحسب، بل تنير قلوب الانسانية قاطبة، على العكس الكثير منا فانه يحول الومضات الى مشاكل وعقبات (أصبح علي (ع) ذات يوم ساعيا فقال: يا فاطمة هل عندك شيء تغذينه؟ فقالت: لا والذي أكرم ابي بالنبوة واكرمك بالوصية، ما أصبح عندي شيء، فقال: الا كنت اعلمتني فألفيكم شيئاً؟ فقالت: يا ابا الحسن أنى لأستحي من ألهي ان أكلف نفسك ما لا تقدر عليه).
هذا النوع من التفاؤل لا تجده الا عند فاطمة وعلي عليهما السلام، انعم بها واكرم من زوجة ليس تكف نفسها بالنقنقة فحسب، بل انها تتعالى عن ذلك وتترفع من احراجه فيما لو طلبت منه شيئا لم يكن بمقدوره تلبيته! فقط هذه العلاقة الفريدة تعلمنا معنى الحياة السعيدة التي تمخر عباب البحر الهائج لتصل الى المرفأ دون خسائر تذكر بالرغم من الامواج العاتية والاضرار المحدقة.
وما جمال الزوجة إذا عبست، وقلبت بيتها جحيماً؟ لَخَيْرٌ منها ألف مرة زوجة لم تبلغ مبلغها في الجمال، وجعلت بيتها جنة، وهل افضل من التسامح وحسن التبعل الذي رسمته الزهراء عليها السلام بتعاملها المثالي مع زوجها ـ اسلك طريقا للوصول الى تلك الجنة الغناء؟!
ولا قيمة للبسمة الظاهرة إلا إذا كانت منبعثةً عن نفس باسمةٍ، وتفكير باسمٍ، وكل شيء في الطبيعة جميلٌ باسمٌ منسجمٌ، وإنما يأتي العبوس مما يعتري طبيعة الإنسان من شذوذ، فالزهر باسم، والغابات باسمة، والبحار، والأنهار، والسماء، والنجوم، والطيور كلها باسمة، وكان الإنسان بطبعه باسماً لولا ما يعرض له من طمع، وشر، وأنانية تجعله عابساً؛ فكان بذلك نشازاً في الطبيعة المنسجمة.
ومن أجل هذا لا يرى الجمالَ مَنْ عَبَستْ نفسُه، ولا يرى الحقيقةَ مَنْ تدَنَّس قلبه؛ فكل إنسان يرى الدنيا من خلال عمله، وفكره، وبواعثه؛ فإذا كان العمل طيباً، والفكر نظيفاً، والبواعث طاهرة _ كان منظاره الذي يرى به الدنيا نقياً، فرأى الدنيا جميلة كما خلقت، وإلا تغبَّش منظاره، واسْوَدَّت نظارته، فرأى كل شيء أسودَ مغبَّشاً.
انظر الى نقاء القلب الذي ينعكس ايجابا على نقاء الدنيا بخطاب الزهراء لزوجها وهي في فراش مرضها الذي توفيت فيه: (يا بن عم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني، فقال لها: معاذ الله أنت أعلم بالله وأبر وأتقى وأكرم وأشد خوفا من الله، من أن أوبّخك بمخالفتي).
النفوس اذا طابت طابت معها كل شيء، والنفوس اذا خبثت خبث معها كل شيء، الثقة المتبادلة ضرورية في ادامة حياة ملئها التفاهم والانسجام، واذا انعدمت الثقة فاقرأ على تلك العلاقة مأتما وعويلا.
هناك نفوس تستطيع أن تخلق من كل شيء شقاءً، ونفوس تستطيع أن تخلق من كل شيء سعادة، هناك المرأة في البيت لا تقع عينها إلا على الخطأ، فاليوم أسود؛ لأنَّ طبقاً كُسِرْ ولأنّ نوعاً من الطعام زاد الطاهي في ملحه، أو أنها عثرت على قطعة من الورق في الحجرة، فتهيج، وتسب، ويتعدى السباب إلى كل من في البيت، وإذا هو شعلة من نار.
وهناك رجل ينغِّص على نفسه، وعلى مَنْ حوله مِنْ كلمة يسمعها، أو يؤولها تأويلاً سيئاً، أو من عمل تافهٍ حدث له، أو حدث منه، أو من ربح خسره، أو من ربح كان ينتظره فلم يحدث، أو نحو ذلك، فإذا الدنيا كلها سوداء في نظره، ثم هو يُسَوِّدها على من حوله.
هؤلاء عندهم قدرة المبالغة في الشر، فيجعلون من الحبة قبة، ومن البذرة شجرة، وليس عندهم قدرة على الخير، فلا يفرحون بما أوتوا ولو كثيراً، ولا ينعمون بما نالوا ولو عظيماً.
الزهراء سلام الله عليها تعلمنا ان الحياة فنٌّ، وفنٌّ يُتَعَلَّم، ولَخيرٌ للإنسان أن يَجِدَّ في وضع الأزهار، والرياحين، والحب في حياته، من أن يَجِدَّ في تكديس المال في جيبه، أو في مصرفه، وما يؤول ذلك الى الفرقة والتناحر والتشاؤم والاكتئاب والانتحار.
ما الحياة إذا وجهت كل الجهود فيها لجمع المال، ولم يوجه أي جهد لترقية جانب التدين، الجمال، والرحمة، والحب فيها؟ أكثر الناس لا يفتحون أعينهم لمباهج الحياة، وإنما يفتحونها للدرهم والدينار، يمرون على الحديقة الغناء، والأزهار الجميلة، والماء المتدفق، والطيور المغردة؛ فلا يأبهون لها، وإنما يأبهون لدينار يأتي، ودينار يخرج.
ولأجل حياة سعيدة بعيدة عن تراكمات المادة فان صوت الزهراء مازال يصدح في الارجاء مجلجلا مدويا في الغرب والآفاق، ان الحياة عندهم ربما كانت وسيلة للعيش السعيد، فَقَلّبوا الوضع، وباعوا العيش السعيد من أجل مغريات مادية عابرة، وقد رُكِّبت فينا العيون؛ لنظر الجمال، فعودناها ألا تنظر إلا إلى الواقعي منه بعيدا عن السراب المادي القاتل.
ليس يعبس النفس والوجه كالابتعاد عن المعنويات والالتصاق بالماديات؛ فإن أردت الابتسام في الحياة وللحياة فحارب الجهل وقبله اليأس، وقبل هذا وذاك حارب الارتهان لبيت انت تعلم انه اوهن من بيت العنكبوت.
أقرأ ايضاً
- توقعات باستهداف المنشآت النفطية في المنطقة والخوف من غليان أسعار النفط العالمي
- عالمية زيارة الاربعين
- كربلاء قيمها عالميه