- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
أمام نُصب سلب (الحرية) لجواد سليم!
بقلم: نجاح بيعي
ـ المشهد الأول
الجندي
سكن روعي بعد جهد من البحث المُضني بين زوايا الفوضى الدموية, حينما رأيت من بعيد ولدي (علي) ذا الثلاثة عشر ربيعًا بقميصه الأبيض الفضفاض مُمددًا بإحدى زوايا شارع (الخلاني) مُغمىً عليه, وقد انحنى عليه أحد المتظاهرين (الشباب) ليسعفه جاهدًا لاختناقه بالغاز المسيل للدموع, بينما ما زال (علم) العراق يرقد بسلام على صدره مُمسكًا به بكلتا يديه.
كانت الساعة (4:45) عصرًا حينما اهتزّت (ساحة التحرير) بمن فيها فجأة, وتزلزلت بلعلعات الرصاص الحي المنطلق من فوهات البنادق كالمطر, وفرقعات قنابل الغاز المسيل للدموع المرمية بين الجموع, وانفجارات قنابل الصوت المدويّة بكل مكان. فضجّ المكان وغدا كالبحر المتلاطم, وجرفنا أنا و(علي) على حين غرّة سيل مدفوع نحونا من المتظاهرين بشكل غير متوقع, حتى حال بيني وبين (علي) وانفلتت يده من يدي ولا أعرف بأيّ اتجاه مضى. ولم تكن إلا لحظات مرّت ثقيلة جدا, حتى غمر المكان بالفوضى الدخانية الحارقة والبارود والهتاف والصراخ والدم.
هرولت باتجاهه. إنكفأت عليه واحتضنته بحرارة. إحتضنني هو الآخر بلا شعور وراح يبكي غير مُبالٍ للهب الدخان الحارق بعينيه ولألم الكدمات التي علت وجهه. كان يتنفس بصعوبة حينما قال لي بصوت منكسر, متقطع, مبحوح:
ـ بابا.. كان هناك موتى ودماء كثيرة بكل مكان. مصابون يصرخون وجرحى يأنّون. متظاهرون يهرولون بكل اتجاه وقد إنكفأ أحدهم على الآخر وظهورهم عرضة للضرب بالعصي والهراوات. رأيت أمًّا يملؤها الرعب على رصيف خال ٍ و(متكومة) على نفسها تحضن وليدا ً لها خيفة أن تفقده. رأيت مقتولا ً تغطيه الدماء على سور (نفق التحرير) وقد تدّلى رأسه ويديه يندبه رفاقه. ورأيت إمرأة ثكلى تولول مفجوعة وتعبر شارعا ً بلا شعور وترفع بكلتا يديها ثوبا ً لقتيل لها. رأيت طفلا ً هائما ً على وجهه يمرق بين فوضى النار والخراب, ويقفز في الهواء ملموم الأطراف هلعا ً وكأنه مُجدع الأطراف.
رأيت ساحة التحرير وكأنها ساحة حرب, وشباب التظاهرات يتجمعون قزعًا كقزع الخريف رغم الموت عند نهايات الشوارع المطلة على الساحة. سمعتهم يهتفون (بالروح بالدم نفديك يا عراق). ورأيت الآخرون يطلقون الرصاص والقنابل علينا وهم يقفون صفوفا ً تحت (نصب الحرية). كانوا مدججين بالسلاح والعصيّ بملابسهم وخوذهم السوداء الغريبة.
تنهّد.
رمى بصره صوب النُصب وأكمل بعيون دامعة:
ـ بابا.. قبل أن تبعدك الجلبة والدخان عني وتغيب, تعثرت قدماي وسقطت أرضًا. وأنا مُمدد على الأرض رأيت بأم عينيّ أحد هؤلاء (الآخرون) كيف يُطلق النار على المتظاهرين وهو يقف تحت النصب عند المنتصف, ثم وجه فوهة بندقيته نحوي. للحظة.. خلته قد استطال فجأة وتضخم وبدا أكبر من غيره حجما ً, حتى غطى تمثال (الجندي) المفتول العضلات الكائن وسط النصب. أبصرته بعد أن خطا بضع خطوات وكأنه انبثق من التمثال وغادر مكانه ونزل لكي يجهز علينا واحدًا واحدًا. أصابتني رعدة أفقدتني الإحساس بكل شيء. حالت بيني وبينه غيمة خانقة وثقيلة تلفها سحب من الغبار الكثيف المُثار فغمرتني فخلت أني مت وفقدت الوعيّ.
ـ المشهد الثاني
النبوءة
لم أتمالك نفسي. إعتصر الألم قلبي لحال (عليّ) وللإحباط الذي تملكه. ألا أني مبهور لمشاهداته المأساوية التي رآها. فشهادته ألهمتني قراءة إشراقية شفيفة لنبوءة (جواد سليم). ذلك الفنان الذي سطر بعبقريته كل تلك الرموز النحتية على الجدار الأبيض الضخم المسمى نصب (الحرية) منذ أكثر من خمسين سنة مضت. أن صور الفواجع التي رآها (عليّ) كالمرأة التي تحضن وليدها, والشهيد, والثكلى, والطفل, وشباب الإحتجاجات, التي كانت بسبب (الجندي) رمز الهيمنة والسلطة الذي رآه (عليّ), ما هي إلا أجزاء متتالية من نبوته التي تضمنتها (لافتته) الإحتجاجية العملاقة التي رفعها إحتجاجا ً بوجه كل حاكم مستبد, وحكومة طاغية, ونظام سياسي منحرف بالأمس واليوم وغدا ً. بلافتته الإحتجاجية تلك كان (جواد) قد غادرجميع الميول والإتجاهات, واعتلى صهوة الزمان ولوى لجامه ومضى مُحلقًا في فضاء (الإنسانية) الرحب.
للقسم الأوسط من النصب ميزة فريدة من شأنها أن تأسر بصر (الرائي) إليه للوهلة الأولى وتجعله يتأمل غريزيًا منحوتاتها, ويستقرؤها قبل أن ينتقل بصره لا إراديًا إلى أقصى اليمين حيث (الحصان) الجامح الذي فقد فارسه. ومن ثمّ الى باقي الرموز النحتية الأخرى. وما ذلك إلا لوجود الحركة العنفوانية (الإنفجارية) للأشخاص كحركة الرأس واليدين والأرجل للجندي, الذي احتل مركز (النصب ـ اللافته) وهو يحطم القضبان, والرجُلين على يمينه, والمرأة المتوثبة الحاملة للمشعل على يساره, حتى قسمن فضاءاته الى عدة أقسام متناظرة ومتقابلة تنطلق من المركز باتجاه الخارج. وكأنه يريد أن يقول بأن مفتاح المعنى العام للجدارية, قد تم إيداعه في هذا الجزء المهم والخطير.
كان (جواد) قد وزّع بشكل متوازن في هذا الإفريز الأشخاص (الأربعة) ثلاثة رجال وإمرأة وجعلهم في ثلاثة فضاءات مستقلة. كناية لوجود زنازين حديدية (ثلاث) وليست واحدة. ومع لزوم وجود الزنازين الحديدية, لزم وجود (سجين) قابع بظلمتها. وحسبي بهذا السجين أن يكون (الرائي) ذاته دائمًا, وبصريح العبارة هو (الشعب) بأكمله. والشعب في نبوءة (جواد سليم) لا يزال مأسورًا سجينًا يقبع في الزنزانة الحديدية. فـ(الجندي) ذلك الرمز الذي يشير الى سطوة (الحاكم) المستبد و(الطاغية) البليد والمتسلط اللاشرعي, كان قد حلّ محل قضبان الزنزانة الحديدية بوقوفه الدائم بعد وثبته المفاجئة. وبعضلاته المفتولة وقوته العنيدة حال دون نيل الشعب لحريته التامة. كيف لا وقد علا رأسه قرص يحمل شعار الملك الوثني الأكدي (نرام سين) أو محبوب إله (القمر). وهو حفيد الملك (سرجون) الذي إعتلى العرش بعد قتله ملك بلاد سومر (لوكال زاكيزي)الذي وثق به وعمل ساقيًا لديه, وأسقط نظامه (المدني) وأسس على أنقاضه إمبراطوريته الكبيرة. وكان (نرام سين) معروف بتطاوله الديني. وقد أوجد (بدعتين) في نظام حكمه, الأولى أنه أصدر أمرًا بكتابة إسمهِ بالعلامة الدالة على (الألوهية). والثانية إتخاذه لقب (ملك الجهات الأربعة). وهو أول من لبس القرون كناية عن لباس الآلهة الوثنية. وانتهى حكمه بـ(كارثة) تبعتها كوارث كـ(الجفاف والقحط والطاعون والطوفان.
سخر (جواد) حقًا من غباء هذا (الحاكم) الذي ظنّ أنه وثب وانتصر. لأن طريقة تحرير (الشعب) من العبودية لا تأتي بتحطيم قضبان زنزانته من (الخارج). ولكونها طريقة المقامرين (الطغاة) المعتادة والفاشلة عبر التاريخ, ومصيرها الفشل والفوضى الدموية دائمًا. وكما لقن (جواد) الحاكم المستبد درسًا في الحرية لن ينساه أبدًا, كان قد ألهم الشعب السجين المستعبَد أيضًا طريقة نيل حريته. وذلك بهديه بوجود (طريقتين) طبعيتين شرعيتين لا ثالث لهما. متعاكستين ولكن تجمعهما وحدة الهدف, هو تحطيم قضبان الأستعباد والقهر. وكلا الطريقتين تتم من داخل الزنزانة الحديدية لا من خارجها, وبمعنى أوضح: من داخل وجدان (الشعب) ذاته. فالرجلان اللذان شغلا الفضاء الأول الكائن إلى يمين (الجندي) هم أبطال الطريقة الأولى. وبدا الرجل المقابل لـ(الرائي) لا يني يُطالع السماء بشغف, وقد انفرجت قضبان الزنزانة بفعل ساعديه القويتين, اللتين تستمدان القوة أو(الفيض) من الأعلى من (السماء). كونه مرتبط بها الى حد العشق والوله. وهو ينظر إليها في كل آن. وما ارتفاعه عن الأرض إلا كناية عن قداسة مقامه وسمّو مكانته بين الناس التي رمز لها بـ(الرجل) الذي حضنه بحركة توحي بالثبات والتمسك والإنتماء له مهما كان الثمن.
فالرجل الأول هو الواسطة بين السماء والناس, فكل فيض سماوي يمر خلاله ليفيض به إليهم , وكل ما يصدر منهم يمر خلاله ليرفعه الى السماء وهكذا. ومن هذا نرى يده اليسرى وهي لا تزال تدفع الحديد وتفرجه في الإتجاه المعاكس ليده اليمنى المفتوحه نحو السماء, كناية عن الإتصال بالسماء ومواصلة تلقي (النور) والفيض وضمان عدم انقطاعه منها وحسبي به طريق الأنبياء والرسل والأوصياء والأولياء والصالحين والمصلحين الربانيين على مدى الدهور والأزمان منذ بدء الخليقة حتى نهايتها.
أما الطريقة الثانية فتمثلت بـ(المرأة) الحاملة للمشعل. وقد شغلت الفضاء الكائن الى يسار (الجندي). فإذا كان باليمين يتم تلقي الحقيقة والفيض السماوي هناك, فإن اليسار هنا يحمل مشعلًا للدلالة على النور والفيض الذاتي ونشدان الحرية من الداخل والتطلع نحو السماء. وبما أن (جواد) قد جعل تلك المرأة بلا (رجلين) وبدت وكأنها تحلّق, فإنها تحولت الى مفهوم ورمز يشير الى (الحرية) ذاتها. وهذه الحرية كامنة في النفس البشرية, ومركوزة في وجدانها, ومغروزة في جبلتها. هي (الفطرة) البيضاء على نحو الحقيقة, وهي النقاء القلبي والبراءة العفوية, بلا كدر أو حقد أو حسد. وهذه القوة الجامحة الكامنة داخل الإنسان, (شعلة) باستطاعتها أن تحطم قيود العبودية والقهر والإستلاب. فـ(المشعل) الذي ينير درب السائرين نحو الحرية نراه قد (أذاب) قضبان الحديد للزنزانة الموحشة وفتح بابا ً نحو الفضاء الرحب للحرية. ورأس المرأة المرفوع للأعلى ووجهها الذي يطالع السماء مصدر الفيض والحقيقة والحرية والخير دائمًا. بينما نرى يدها اليمنى مفتوحة تلوح للآخرين لأن يحذون حذوها ويتبعون طريقها نحو الخلاص. أن هذه الطريقة ومن وجهة نظر أخرى, ما هي إلا عروج من الذات الى السماء (الحقيقة ـ الحرية). وهي عكس الأولى التي هي (إيحاء) من السماء (الحقيقة ـ الحرية) الى الذات.
رحم الله جواد سليم.
ـ المشهد الثالث
وطن.. ولكن عبر كربلاء
توارت الشمس وراء أفق شائه بسحب دخان الغاز, مخلفة سماء رمادية لمساء تشريني كئيب تفوح منه رائحة الموت من كل مكان. بينما ظلت أصداء هتافات الشباب الغاضب في الجوار تملأ أجواء مشهد الموت الطافح, بصور الرعب والغدر والدم والصراخ.
كان عليّ أن أنتشل نفسي و(علي) من جبّ الإنكسار والإحباط. وأن لا أدعه يركن لليأس وشراكه. وارتأيت أن أواسيه فقلت له بلا مقدمات:
ـ عليّ.. أتذكر طريق (يا حسين) نحو كربلاء؟.
ـ نعم.
ردّ عليّ بصوت خفيض وهو يدسّ رأسه بحضني بقوة كمن يريد الهرب بعيدًا. فقلت له بحزم كمن يريد أن يقرع شغاف القلب بكلماته:
ـ أن طريق التظاهرات يُفضي الى الوطن. ووطننا لا يمكن أن يكون إلا أن يمر عبر كربلاء!
جمُد بمكانه. فتح عينيه ونظر نحو البعيد وكأنه استحضر كربلاء وراح يطالع قصص البطولة فيها. بدأت أسارير وجهه المتجهم تنبسط. شعرت به وكأنه بدأ يتسلق جب الإحباط رويدًا رويدًا. فما كان مني إلا أن أمد له حبل النجاة, فشرعت أطلق نغمات بطيئة متقطعة دغدغت سمعه المشوش:
ـ لَا لَا لَالَا لَا (أُصلي عليكَ)..
ـ لَا لَا لَالَا لَا (أبا الفرقدينِ)..
تبسم. نظر الى الأعلى وراح يترنم بصوت مبحوح تعِب:
ـ (عِراقَ عليٍ عِراقَ الحسينِ)..
أعدت الكرة عليه بوتيرة أسرع:
ـ لَا لَا لَالَا لَا.. لَا لَا لَالَا لَا..
إنتفض. إرتفعت عقيرته وتحرر صوته وأخذ يردد معي:
ـ (عـِراقٌ وفـيكَ تسودُ الأسودُ.. وتحمي حماكَ كماتٌ جنودُ)..
إلتفت (عليّ) يمينًا فرأى جموع المتظاهرين في أقصى الشارع وكأنه بركان ثائر. وإلتفت يسارًا فبصر عبر ساحة (التحرير) التي تحولت الى ساحة حرب كيف تجمع (الآخرون) تحت نصب (الحرية) تتلامع أسلحتهم في المساء الحالك كأنها الشرار في الليل البهيم. وقف على قدميه. أفرد (علم العراق) الذي يحمله. رفعه عاليًا بيده اليسرى بعد أن هزّه بضع هزّات وصدح:
ـ (فـفـي كـلِ شبرٍ سيُنبتُ عودُ..ترفُ عليهِ المنى والخلودُ)..
حسم (عليّ) أمره وأمّ جموع المتظاهرين. تبعته بصمت كما يتبع الفصيل أمه وهو يقودني بيده اليمنى مرددا ً:
ـ (عـراقٌ و أرضـكَ أمٌ ولودُ..ومـائُكَ ينهلُ منهُ الوجودُ(..
ـ (زلالٌ تحاكي بياضَ اللجينِ..عِراقَ عليٍ عِراقَ الحسينِ)..
بكيت.
وواصلت المسير خلفه.
إنتهى.
أقرأ ايضاً
- لماذا تصمت الحكومة أمام عقود أندية دوري "لاليغا" ؟
- تأثير مشاهير المحتوى السلبي في مواقع التواصل الاجتماعي على المجتمع
- مجالس المحافظات بين الإيجابيات والسلبيات