بقلم: حسين فرحان
يتدوال كبار السن حكاية الرئيس العراقي الراحل عبد الكريم قاسم مع الخباز الذي وضع صورة كبيرة له في محله، فطلب منه أن يصغر الصورة ويكبر الرغيف.
هذه الحكاية - رغم قدمها - لم تجد لها متنفسا قبل عام ٢٠٠٣ ولم يتم تداولها إلا في بعض المجالس الخاصة، حين كانت الحرية مومياء تقبع تحت القصور الرئاسية وأهرامات المملكة البعثية في جمهورية القائد الضرورة الذي ملأت صوره أرجاء حياتنا في مداخل المدن ومخارجها وفي دوائر الدولة
ومؤسساتها.. في المناهج الدراسية ودروس الرسم وعلى الشاشة البيضاء والسوداء فالملونة.. وعلى النقود حتى تستشعر ضرورته الأيادي أن تجاهلت العيون صورته.
أتذكر.. حين وقع على العراق حيف الحصار والسنوات العجاف وتنعمنا حينها بأنسانية الغرب وأمريكا وهم يقتلون الشعب ببطء شديد، أن النقود صارت تطبع في مطابع النظام لتمشية الحال فكانت فرصة سانحة للمزورين أن (يزوروا المزور)، فكان السوق يعج بفئات نقدية حكومية - مزورة بشكل رسمي - وأخرى مزورة بشكل غير رسمي، وكان هذا الأمر يشكل هاجسا محيرا لفئات هذا الشعب المسكين الذي استعان بأجهزة تكشف المزور الحكومي من المزور الآخر وبكل الأحوال هي مفارقة غريبة في زمن العجائب الصدامية.. فظهرت فئة من الناس خبيرة في مجال اكتشاف الفروقات فالخط والنخلة والفسفورة من مقومات العملة الصدامية وعدم وجودها يعني أنها حبر على ورق ولايتم التعامل بها رغم أن هذه وتلك تتوسطهما (صورة الريس).. وقد دفعني الأمتعاض في حينها الى افتقاد صورة الحصان التي كانت تزين العملات القديمة المعروفة بـ (السويسرية)
(قد عميت عيوننا نبحث في الجهاز..
عن نخلة لاتمنح التمر..
لكنها بهية..
رئيسنا لم تكفه الرئاسة..
فزاحم الحصان..
في العملة النقدية..)
كنت أردد بين أصحابي الثقاة - الذين يحفظون السر - هذه الكلمات التي كنت احتفظ بها في أوراقي ثم مزقتها حين علمت بأن لجان التفتيش اقتربت كثيرا من حينا.
ثقافة الصورة ماتزال عالقة في أذهان البعض ومازال البعض يؤمن بها رغم تقادمها وتهالكها، رغم حالة القرف والامتعاض منها.. رغم حالة الملل التي صاحبت هذا الشعب طيلة ٣٥ عاما من هذه الثقافة البالية التي تفرض على الجميع أن يرى (صورة الريس) وماتزال - رغم اختفاء ذلك الوجود البائس للنظام المقبور - ثقافة الصورة تتصدر المشهد اليومي لحياتنا دون مراعاة لتعدد التوجهات واختلاف الرؤى، وربما نتفق جميعا على أنها كانت ثقافة بالية فيها تشويهها للمباني والجدران ومداخل المدن وفرض للرأي والتوجه والأنتماء واستعراض ينتمي لتلك العقلية القديمة المستهلكة، فلماذا هذا الأصرار على البقاء في نفس الدائرة.. لماذا لانتفق على المشتركات ؟
فالزهور والحدائق واللوحات الإعلانية الجميلة لايختلف فيها إثنان.. لماذا لانمتثل لضوابط التعايش ؟ لماذا لانخضع للتغيير نحو الأفضل والأجمل ؟ نخلد صور الشهداء.. نصنع لهم نصبا تذكارية.. نخلد رموزنا.. علمائنا.. وبشكل معقول لا أفراط فيه.. نحن لسنا بحاجة لأن نبدأ رحلتنا - في تغيير هذه المفاهيم - من الصفر، كل ما علينا القيام به هو أن نبدأ من حيث انتهى العالم المتحضر، علينا فقط أن نرمي بطرفنا إلى عاصمة من عواصم العالم المتحضر ونستنسخ تجربتها في هذه المجالات ولابأس أن تكون لنا بصمتنا وذوقنا.. أما آن الأوان أن نتخلى عن ثقافة (صورة الريس) التي راح ضحيتها في ذلك الزمن أناس رمى أطفالهم القمامة دون قصد قربها ليتلاقفهم جلاوزة الأمن العامة والشعبة الخامسة تنكيلا وتعذيبا دون رحمة.
القضية بحاجة إلى وقفة مع الذات والإيمان بأن لكل شخص الحق في أن ينظر لصورة من يحب لكن في بيته لا في مداخل المدن وعلى الجدران والأعمدة وفي جهات الأرض الأربعة.