- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
في الذكرى (الخامسة) لفتوى الدفاع المُقدسة.. هل كان داعش صناعة عراقية؟
بقلم: نجاح بيعي
ـ حلقة رقم (1)
في الذكرى (الخامسة) لصدور فتوى الدفاع المُقدسة كنت أعدت قراءة نص (الفتوى) أكثر من مرّة كما في كل مرة, حتى استوقفتني الفقرة (3) الثالثة منها بالتحديد.
وكان خطابها موجه للقيادات السياسية في العراق خاصة, وقد طالبتهم بـ(ثلاثة) مطالب بعد أن الهجمة البربرية من قبل تنظيمات عصابات (داعش) الإرهابية هي:
1ـ ترك الإختلافات والتناحر خلال هذه الفترة العصيبة على أقل تقدير.
2ـ توحيد الموقف والكلمة.
3ـ دعم وإسناد القوات المسلحة. {1}.
تمعّنت بضمون المطالب وقلبت النظر فيها أكثر من مرة وما ترمي إليها وخلصت الى.. أن القيادات السياسية في العراق ولغاية عشية وصباح سقوط (الموصل) بيد الإرهابيين, كانت (طامسة) وغارقة في الإختلافات والتناحرمن أجل المكاسب السياسية, وكانت على درجة من عدم توحيد الموقف والكلمة تجاه قضايا الوطن (العراق) وتحدياته المصيرية, وبالنتيجة أدى ما هم عليه الى تنصلهم من دعم وإسناد القوات المسلحة في تصديها للهجمة الإرهابية لـ(داعش) حتى حلّت الكارثة بانهيار القطعات العسكرية والتشكيلات الأمنية.
سألت نفسي:
ـ هل كانت الطبقة السياسية سببا ً في حلول الكارثة ودخول (داعش) الى العراق؟.
ـ بمعنى آخر أدق ـ هل اتهمت المرجعية الدينية العليا في الفقرة (3) من نص الفتوى القيادات السياسية بتمكين (داعش) من السيطرة على أكثر من ثلثي أراضي العراق؟.
ـ وإذا كان الأمر كذلك فهل تذهب المرجعية العليا إلى أن (داعش) صناعة محلية (عراقية)؟.
للإجابة على تلك الأسئلة ربما أحتاج غوصا ً في مواقف ونصوص المرجعية الدينية العليا تجاه مجمل الأحداث والتحديات المصيرية والقضايا الخطيرة المختلفة التي واجهت العراق وشعبه وبالخصوص في الملف الأمني. وهي نصوص كثيرة ومتنوعة كما تعلمون كالبيانات والإستفتاءات وأجوبة الإستفسارات, فضلا ً عن ما يطرحه منبر صلاة جمعة كربلاء من تلك المواقف المختلفة.
وبما أن مسألة البحث في النصوص والمواقف ليست بالمستحيلة ولا بالعسيرة , مع توفر الأدوات الحديثة والمنتشرة عبر وسائل شبكة الأنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي , فالأمر لا يحتاج إلا إلى بذل بعض الجهد اليسير, حتى ساقني الى بعض النصوص التي أسعفتني بالإجابة على الأسئلة أعلاه منها:
أولا ًـ جواب المرجعية العليا على أحد أسئلة (وكالة الصحافة الفرنسية) في 20/8/2015م الذي كان يسأل: (هل يعتبر سماحة السيد أن الدعوة إلى مكافحة الفساد وإصلاح مؤسسات الدولة، توازي بأهميتها نداءه إلى الشعب العراقي في حزيران / يونيو 2014 لقتال تنظيم داعش؟).
فجاء جوابها الذي حمل الرقم (4) من الأجوبة نصا ً كما يلي:
(من المؤكد أنّه لولا استشراء الفساد في مختلف مؤسسات الدولة ولاسيّما المؤسسة الأمنية، ولولا سوء استخدام السلطة ممن كان بيدهم الأمر لما تمكّن تنظيم داعش الإرهابي من السيطرة على قسم ٍ كبير ٍ من الأراضي العراقية، ولما كانت هناك حاجة الى دعوة المرجعية العليا للعراقيين الى الإلتحاق بالقوّات المسلّحة للدفاع عن الأرض والعِرض والمقدّسات. واليوم إذا لم يتحقق الاصلاح الحقيقي.. فإن من المتوقع أن تسوء الإوضاع أزيد من ذي قبل، وربما تنجرّ الى ما لا يتمناه أي عراقي محبّ لوطنه من التقسيم ونحوه لا سمح الله..) {2}.
إذن.. لولا الفساد وسوء استخدام السلطة من قبل الطبقة السياسية لما تمكن (داعش) من السيطرة على مقدرات العراق. وهو اتهام واضح ومباشر من قبل المرجعية العليا بل حذّرت بأن العراق سيشهد ما هو أسوء من (داعش) وبما لا يتمناه كل عراقي, فيما لو استمر الحال على ما هو عليه, باستمرار نهج الطبقة السياسية الحاكمة السلبي.
ثانيا ًـ وقبل أن أنتقل إلى نص آخر لموقف جديد للمرجعية العليا, سأبقى مع عبارة(.. لما تمكّن تنظيم داعش الإرهابي من السيطرة على قسم ٍ كبير ٍمن الأراضي العراقية..) من نص الجواب على أحد أسئلة الصحافة الفرنسية أعلاه, وتحديدا ًعند كلمة (.. تمكّن..) بالذات.
مما لا شك فيه أن المرجعية الدينية العليا عالمة في علوم اللغة العربية, لذا فهي حريصة جدا ً وحذرة في الوقت ذاته في اختيار الألفاظ في صياغة ما تريد من مضامين في البيانات أو الرسائل أو الردود أو الأجوبة وغيرها, حتى يصل المعنى بشكل لا لبس فيه أو توهم للأمة جمعاء وللشعب العراقي. وهذا يدفعنا (أو يجب أن يدفعنا) إلى أن نقف ولو قليلا ً مع المعنى اللغوي لبعض مفردات نصوصها ومواقفها ليتضح لنا المعنى الحقيقي وتكتمل الصورة لدينا وتكون جاهزة للإستيعاب بلا لبس أو توهم. لنقف عند كلمة (تمكّن) ونفهم معناها اللغوي ليتضح المراد منها وما تشير له من خلاق سياق الجملة.
ـ تمكّن: من مكن له في الشيء: أي جعل له عليه سلطانا ً. ومكن فلانا ًمن الشيء: أمكنه منه{3}.
ويقال: مكنته ومكنت له فتمكن. قال تعالى (ذى قوة عند ذى العرش مكين) أي متمكن ذى قدر ومنزلة{4}.
فوضع كلمة (تمكّن) في سياق الجملة كان موفقا ًمن قبل المرجعية العليا لكي يشير الى أن الإرهاب و(داعش) إنما نما وترعرع هنا في حواضن عراقية, وأن الطبقة السياسية (وللأسباب السلبية من فساد وسوء إدارة الدولة ـ الآنفة الذكر) كانت سبب ذلك (التمكين) والنمو والتمدد, بل وإلى خلع القدرة والسلطة عليه.
ثالثا ًـ وجدت في نص (البيان) الأخير للمرجعية العليا في الذكرى (الخامسة) لإصدار فتوى الدفاع المُقدسة والذي جاء عبر منبر جمعة كربلاء في 14/6/2019م, ما يدعم ويؤيد الطرح أعلاه. أي أن الطبقة السياسية المتصديّة مسؤولة مسؤولية مباشرة عن (تمكين) داعش من السيطرة أقسام كبيرة من أراضي العراق والعبث بمقدراته وقدراته. فذكر في البيان:
(ولم يكن ليتحقق هذا الإنجاز التاريخي العظيم(يقصد النصر على داعش)لولا.. تجاوز القوى السياسية لخلافاتهم وصراعاتهم، وتعاليهم على المصالح الشخصية والفئوية والقومية والمناطقية.. ولكن بعد أن وضعت الحرب أوزارها وتحقق الانتصار المبين.. دبّ الخلاف من جديد ـ معلناً تارة وخفياً تارة أخرى ـ في صفوف الأطراف التي تمسك بزمام الامور، وتفاقم الصراع بين قوى تريد الحفاظ على مواقعها السابقة وقوى أخرى برزت خلال الحرب مع داعش تسعى لتكريس حضورها والحصول على مكتسبات معينة، ولا يزال التكالب على المناصب والمواقع.. والمحاصصة المقيتة.. ولا يزال الفساد المستشري في مؤسسات الدولة.. ولا تزال البيروقراطية الادارية وقلة فرص العمل والنقص الحاد في الخدمات الاساسية.. ولا تزال القوانين التي منحت امتيازات مجحفة لفئات معينة على حساب سائر الشعب سارية المفعول ولم يتم تعديلها، كل ذلك في ظل أوضاع بالغة الخطورة في هذه المنطقة الحساسة، وتصاعد التوتر فيها بعد فترة من الهدوء النسبي لانشغال الجميع بالحرب على داعش){5}.
ـ وما أشبه اليوم بالبارحة. فكلام المرجعية العليا هنا إنما هو عودة إلى بدء, فهي لم تكتفي بالوصف والتشخيص والتحذي, وإنما أعادت للأذهان ذات الأسباب المُدمرة والأجواء السلبية المظلمة للفترة العصيبة التي عاشها العراق وشعبه عشية هجوم إراهبيّ داعش على العراق. وما أشبه هذا النص بـ(نص) الفقرة رقم (3) التي وردت في خطبة إعلان فتوى الدفاع المقدسة في 13/6/2014م والتي كانت:
(إنّ القيادات السياسية في العراق أمام مسؤولية وطنية وشرعية كبيرة وهذا يقتضي ترك الإختلافات والتناحر خلال هذه الفترة العصيبة وتوحيد موقفها وكلمتها ودعمها وإسنادها للقوات المسلحة ليكون ذلك قوة إضافية لأبناء الجيش العراقي في الصمود والثبات){6}.
ـ لذلك أشارت المرجعية العليا في نص بيان الذكرى ـ الخامسة للفتوى التحذير التالي:
(إن استمرار الصراع على المغانم والمكاسب وإثارة المشاكل الأمنية والعشائرية والطائفية.. تمنح فلول داعش فرصة مناسبة للقيام ببعض الإعتداءات المخلة بالأمن والإستقرار.. إن تطبيع الأوضاع في تلك المناطق..تمنع من التعدي والتجاوز على حقوقه القانونية.. وبخلاف ذلك تزداد مخاطر العود بالبلد الى الظروف التي لا تنسى آلامها ومآسيها).
رابعا ًـ إن الإعتقاد بأن الطبقة السياسية العراقية هي سبب (تمكين) داعش وبروزه على الساحة, يجزم بأن أراضي العراق لا غيره من البلدان كان مكانا ً حاضنا ً ومنطلقا ً له. وهذا ما ذكرته المرجعية العليا في نص فتوى الدفاع المقدسة وفي النقطة (4) تحديدا ً في العبارة التالية:
(..ويعتمد العنف (يقصد أرهاب تنظيم داعش) وسفك الدماء وإثارة الإحتراب الطائفي وسيلةً لبسط نفوذه وهيمنته على مختلف المناطق في العراق والدول الأخرى..) فبسط نفوذ داعش على مناطق العراق أولا ً ومن ثمّ أراضي الدول الأخرى يؤكد ما ذهبنا إليه. {7}.
وكذلك ما أشار إليه بيان للمرجعية العليا في 29/5/2015م حول موقفها من الإنتخابات البرلمانيّة العراقيّة والذي ألقي عبر منبر جمعة كربلاء حيث قالت:
(..إنّ استجلاء طبيعة الأحداث التي تمرّ بها المنطقة, والتمدّد لعصابات داعش و(أمثالها) في مناطق معينة من العراق وما يجاورها من بعض الدول الأخرى..){8}.
ولكن الملاحظة الخطيرة التي أبدتها المرجعية العليا في الفقرة الآنفة الذكر, هي أن عصابات داعش وتمدده في العراق وما يُجاوره من البلدان إنما حظي بتقديم تسهيلات ودعم مالي ولوجستي من قبل جهات وأطراف إقليمية ـ وربما دولية(حسب تعبير المرجعية العليا حيث ذكرت:
(مع توفّر دلائل واضحة على تقديم التسهيلات والإسناد مالياً ولوجستياً لهذه العصابات من جهاتٍ وأطراف إقليمية ـ وربّما دولية، يُعطي مؤشّرات خطيرة الى أنّ دول المنطقة وشعوبها كافة مهدّدة بصراعٍ دمويّ ذي طابعٍ طائفيّ وعرقيّ يمتدّ لسنين طويلة مخلّفاً الكثير من القتل والخراب.. تمهيداً لتقسيمها وتمزيقها الى دويلاتٍ صغيرة تتناحر فيما بينها).
وهذا ما يؤكد إلى أن داعش الإرهابي ذا منشأ محلي ـ عراقي حظي بدعم من جهات وأطراف إقليمية ومن ثمّ دولية, وهذا لا يدفع التهمة عن الطبقة السياسية إطلاقا ً, كونها لا تخرج من مُعادلة تبعيتها للأجندات الأجنبية (الخارجية) وسماحها لنفوذ البلدان المجاورة وغير المجاورة لأن يعبث بالإرادة الوطنية والسياسية للعراق وشعبه. وطالما حذرت المرجعية العليا جميع القوى السياسية وزعاماتهم بالإبتعاد عن الأجندات الأجنبية وأن يمنعوا التدخل الخارجي. فقد طالبت:
(..أن يُمنع التدخّل الخارجي في أمر الإنتخابات سواء بالدعم المالي أو غيره.. والإبتعاد عن الأجندات الأجنبيّة..){9}.
ـ يتبع..
ـــــــــــــــــ
ـ الهوامش:
ـ(1) خطبة جمعة كربلاء (14شعبان 1435هـ) الموافق لـ(13حزيران 2014م) في الصحن الحسيني الشريف بإمامة الشيخ "عبد المهدي الكربلائي":
https://alkafeel.net/inspiredfriday/index.php?id=164
ـ(2) أسئلة وكالة الصحافة الفرنسية وأجوبة مكتب سماحة السيد السيستاني (دام ظلّه) عليها ـ النجف الأشرف في 4/11/1436 هـ الموافق 20/8/2015م
https://www.sistani.org/arabic/archive/25159/
ـ(3) المعجم الوسيط ـ مادة (مَكّنَ).
http://kamoos.reefnet.gov.sy/?page=entry&id=288715
ـ(4) مفردات غريب القرآن ـ للراغب الأصفهاني ـ مادة مكن ص 471.
ـ(5) خطبة جمعة كربلاء 14/6/2019م
https://www.alkafeel.net/inspiredfriday/index.php?id=444
ـ(6) الفقرة (3) من خطبة إعلان فتوى الدفاع المقدسة:
https://alkafeel.net/inspiredfriday/index.php?id=164
ـ(7) رابط نص فتوى الدفاع المقدسة في 13/6/2014م:
https://alkafeel.net/inspiredfriday/index.php?id=164
ـ(8) بيان المرجعية العليا حول موقفها من الإنتخابات البرلمانيّة العراقيّة ـ خطبة جمعة كربلاء في 29/5/ 2015م:
https://alkafeel.net/inspiredfriday/index.php?id=214
ـ(9) نفس المصدر السابق.
أقرأ ايضاً
- التعدد السكاني أزمة السياسة العراقية القادمة
- وقفه مع التعداد السكاني
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة