- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الركود الأقتصادي في العراق 2014-2016: رؤية تحليلية / الجزء الثاني
بقلم: مظهر محمد صالح
3-آلية الانتقال السعري والتوقعات:
تظهر حالة التعايش مع طورين مختلفين من الاطوار الاقتصادية (واعني الركود الاقتصادي في المدة القليلة الماضية الذي هو نقيض التضخم الجامح في العقد الستسعيني السابق) ثلاثة ظواهر عكسها اقتصاد العقد التسعيني التضخمي عن الوضع الانكماشي الراهن: اولهما يتمثل بتوافر عربة او واسطة من السيولة المحلية عملت على نقل توقعات هبوط العائد على النقود بصورة معدلات فائدة حقيقية سالبة بسبب التضخم والتوقعات التضخمية التي كان يولدها الطلب الفعال الناجم عن الاصدار النقدي. وثانيهما فان غياب الاصدار النقدي المرافق لآزمة السيولة او تقلصها حاليا، اخذ يولد توقعات فائدة حقيقية موجبة تعظم من فخ السيولة المحلية.
وثالثهما، فان التخلي عن فخ السيولة المحلية صوب العملة الاجنبية يتطلب تعويضا مستقبليا يتمثل بنقل الفائدة الحقيقية الموجبة الى سعر الصرف في هذه المرة اي تخفيض الدينار تحت تاثير تعويض الفائدة (وكانما نقترض بفائدة لكي نشتري الدولار) وهنا تتحق حالة مزاحمة خارجية على العملة الاجنبية يمكن تسميتها بالمزاحمة الخارجية الفائقة(Super crowding out).
فإن طور انفلات السيولة النقدية وتوليدها المرن عبر سياسة النقد الرخيص والتمويل بالتضخم في تسعينيات القرن الماضي قد اوجد رابطة قوية بين التوقعات التضخمية واداتها السيولة المتولدة عبر الانفاق العام من جهة وارتفاع المستوى العام للاسعار من جهة أخرى و بأثار ارتجاعية تداخلت فيها الاسباب بالنتائج. حيث ظلت اشارة الفائدة الحقيقية السالبة ترسل توقعاتها التضخمية من خلال المستوى العام للاسعار وتحت تاثير الاداة الناقلة او العربة الناقلة وهي قوة الاصدار النقدي وتطور نمو عرض النقد والتمويل بالعجز ازاء دوال للطلب النقدي المتجهة نحو التخلي عن السيولة وتعظيم سرعة دوران النقود و المضاربة بسعر الصرف الذي ادى الى هبوط الدولار بمقدار ارتفاع التوقعات التضخمية او معدلات الفائدة الحقيقية السالبة. وبعبارة اخرى فان تعاظم الانفاق او الطلب الكلي للافراد مع تعاظم التمويل بالاصدار النقدي او التمويل بالتضخم في الموازنة العامة، برزت ظاهرة تزاحم داخلي Crowding in متمثلة بالتخلي عن النقد لمصلحة السلع وحيازتها.وهي حالة اضحت تناسب سلوكا نقديا يكون الطلب النقدي فيها عكسيا مع التوقعات التضخمية بسبب الدور الذي تؤديه اشارة (الفائدة الحقيقية السالبة) في كازينو المضاربات على تدهور اشارة سعر الصرف المستمرة وهو سلوك وتصرف يعد شكلا من اشكال المضاربة ويمكن ان نطلق عليه بالتزاحم الداخلي الفائق (Super crowding in)
اما حالة الانكماش الراهنة فقد اوجدت علاقة اقتصادية مختلفة تماما عن مرحلة انفلات السيولة والتمويل بالتضخم، اذا يؤدي سلوك الطلب النقدي (المتمثل بارتفاع فخ السيولة) والمقترن بعلاقة موجبة مع سعر الفائدة الحقيقي الى نقل منافع تلك الاشارة بصورة فائدة حقيقية متوقعة ومن خلال السيولة المتاحة من مجال سعر الصرف الى سلوك النقد اي فخ السيولة بالعملة الاجنبية. اخذين بالاعتبار ان الفائدة قد امست جزءاً لايتجزء من تركيب سعر الصرف. وانها عنصر متسبب بانخفاض سعر الصرف للدينار العراقي نفسه، فالانتقال من العملة المحلية الى العملة الاجنبية (ضمن الحركات الارتجاعية اللاحقة) يعني التضحية بفخ السيولة المحلية، وان ثمن التضحية هو نقل اشارة سعر الفائدة الحقيقية الموجبة الى سعر الصرف وباتجاه معاكس اي من فخ السيولة المحلية بالدينار الى فخ السيولة بالعملة الاجنبية ليكون بفارق يتمثل بنسبة خصم تحوطية قيمتها تساوي معدل الفائدة الحقيقية الموجب نفسه (اي ثمن التخلي عن فخ السيولة المحلية لمصلحة فخ السيولة الاجنبية.
وان ثمن الفائدة الحقيقية الموجبة وانتقالها الى سعر الصرف هو ثمن التخلي عن فخ السيولة المحلية. انه تزاحم خارجي فائق كما ذكرنا انفاً في ظروف انكماش اقتصاد شديد الريعية، اذ تبدلت فيه الاشارات السعرية (من فائدة حقيقية متوقعة سالبة ابان الافراط النقدي الى فائدة حقيقية متوقعة موجبة في زمن الانكماش النقدي) محققة العلاقة السببية بين سعر الصرف وتوقعات المستوى العام للاسعار. بعبارة اٌخرى، فمثلما حلت توقعات الفائدة الحقيقية الموجبة محل التوقعات التضخمية (اي الفائدة الحقيقية السالبة ابان مرحلة الافراط النقدي) فان اختفاء عربة السيولة او النقد الرخيص (السنيوريج) وازدهار فخ السيولة وشيوع الانكماش في هذه المرة مع بقاء البنك المركزي مستقلاً عن الحكومة والتمسك بكونه ليس هو الرافعة المالية في تمويل الموازنة بالنقد الرخيص او البديل في تمويل الدين العام الداخلي دون المرور بالسوق النقدية، اكدها ثبات نمو النقود و بطيء تكاثرها (نسبة الى ناتج محلي) وهي صورة آخرى مختلفة في سلوك المدرسة النقودية في الاقتصاد عند وصف ميكانيكية الانكماش كمقلوب للتضخم.
3-الاستنتاجات
ثمة استنتاجات اساسية افرزها ميدان العمل الاقتصادي عند تشخيصه مرحلتين مختلفتين من مراحل التضخم والانكماش التي مر بها التاريخ الاقتصادي القريب للعراق. فقد اظهرت المرحلة التضخمية الاولى ابان الحصار (الاقتصادي) على العراق في تسعينيات القرن الماضي والسنوات القليلة اللاحقة، ان اشارات الفائدة الحقيقية السالبة (المتوقعة) التي كانت ترسلها السوق النقدية وخصوصا سوق الصرف تتحول حالاً ومن خلال عربة الاصدار النقدي (المستمر) الى توقعات تضخمية حادة (يشهدها المستوى العام للاسعار) بعد ان تتخللها تغيرات حادة في الاسعار النسبية. كما تتحق اثار ارتجاعية فورية تتجه من (ارتفاع) في الفائدة السالبة الفعلية الى حالة (انخفاض) فعلي في سعر صرف الدينار العراقي، اي ان سعر الصرف يتقلب في انخفاضه او في ارتفاعه عكسيا مع التقلبات الفعلية في مستوى الفائدة وهو شكل من اشكال المضاربة السعرية الناجمة عن توقع انخفاض سعر الصرف تصاعديا.
وهكذا شهدت البلاد قفزات تضخمية حادة بلغت بالمتوسط مرتبتين عشريتين على مدار اكثر من عقد من الزمن وبواقع 50 % سنوياً. اما مرحلة الكساد الراهن،وفي ظل ظاهرة تعاظم فخ السيولة، فان دور العربة الناقلة قد اختلف كثيرا وتحولت البلاد من التضخم الى الانكماش. فسوق النقد ترسل اليوم اشارات لسعر فائدة حقيقي موجب (متوقع) الذي يتحول الى توقعات انكماشية في الاسعار (ولاسيما على صعيد المستوى العام للاسعار) فكلما يتزايد فخ السيولة ترتفع كلفة التمويل بالدينار العراقي، وهي حالة تقاوم حدوث ارتفاعات سعرية بسب شحة السيولة النقدية نفسها ولكن تجد دلالتها في ارتفاع الفائدة الحقيقية الموجبة. وان الاثر الارتجاعي (الفعلي) لاشارة الفائدة الحقيقية الموجبة ستتحول الى سوق الصرف، اذ يُخصم سعر صرف الدينار بالنسبة التي ترتفع فيها الفائدة جراء التخلي عن فخ السيولة المحلية ونقله الى فخ السيولة بالعملة الاجنبية وهو في هذه الحالة شكل من اشكال التحوط Hedge، ولكن من دون ان يشهد المستوى العام للاسعار اي تقلب يذكر باتجاه الارتفاع. فكلفة انخفاض سعر صرف الدينار في المرحلة الانكماشية هي ثمن التخلي عن السيولة بالدينار والحصول على سيولة بالعملة الاجنبية محملة بفائدة سيولة بالدينار. اي ان سعر الصرف سيحمل تكاليف فرصية لعائد عالي محتمل او متوقع يمثله سعر فائدة حقيقي موجب انتقل اثره من الدينار الى الدولار كفخ سيولة آخر بالعملة الاجنبية يضاف الى قيمة الدولار المتحصل وهذا ماتمت تسميته بالتزاحم الخارجي الفائق الذي يساوي سعر فائدة السياسة النقدية البالغة يومها 6% مطروح منه التضخم الاساس البالغ 1.6% والذي عادل تماماً فروقات سعر الصرف بين السوق المركزية والسوق الموازية.
ختاما، اذا كان سعر الصرف في اوقات التضخم الجامح هو من يبعث اشارة التوقعات التضخمية (بشكل فائدة حقيقية سالبة) من خلال عربة الكتلة النقدية وتزايد الاصدار النقدي وتمويل الموازنة بالعجز ومن ثم تدهور سعر الصرف، فان سعر الصرف في ازمنة الانكماش الاقتصادي والتمسك بفخ السيولة، سيرسل اشارات سعرية مختلفة عن المرحلة السابقة وهي اشارة (اسعار الفائدة الحقيقية الموجبة المتوقعة) وهو الامر الذي يعظم من فخ السيولة المحلية ويقوي الطلب على الارصدة النقدية لتحقيق مايسمى مجازاً بفائض المستهلك المحتمل او المتوقع(حسب نظرية مارتن بيلي) وهو سلوك فردي يأتي لتعظيم شيء من الازدهار جراء التمتع بالسيولة المتوقع ارتفاع قوتها الشرائية وقيمة العائد عليها. اي ان واقع الحال الانكماشي يؤشر بلوغ مثلت حالة هي (مقلوب) نظرية مارتن بيلي (القائمة على احتساب كلفة الرفاهية الناجمة عن التضخم) والمقلوب هنا من وجهة نظرنا يمكن تسميته في هذه الحالة (بمكاسب الرفاهية المؤقتة الناجمة عن الانكماش) كسلوك مختلف في الطلب النقدي للافراد (وهو عكس كلفة الرفاهية الناجمة عن التضخم في الادبيات الاقتصادية السائدة).
انتهى.
ايضاً يمكنكم الاطلاع على الجزء الاول:
الركود الاقتصادي في العراق2014-2016: رؤية تحليلية/الجزء الاول