- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الركود الاقتصادي في العراق2014-2016 : رؤية تحليلية/الجزء الاول
بقلم: مظهرمحمد صالح
1- تاريخ السلوك النقدي بين التضخم والانكماش.
ثمة مظاهر ثلاثة اشرت حالة الركود او الانكماش الاقتصادي في العراق خلال الاعوام ٢٠١٤٢٠١٦.فمعدلات النمو في الناتج المحلي الاجمالي الحقيقي غير النفطي ظلت تقدر باقل من 1% وان البطالة الاجمالية هي بنحو 28% من اجمالي قوة العمل لاسيما بين صفوف الشباب، اما التضخم فهو الاكثر غرابة، اذ ظل التضخم السنوي الاساس دون نسبة 2%على الرغم من تقلب سعر الصرف الذي زاد هبوطه على 12% مقارنة بالمعدل الرسمي المستقر والثابت لسعر الصرف ذلك لآسباب تقيدية فرضتها المادة 50 من قانون الموازنة الاتحادية للعام 2015 والتي الزمت البنك المركزي العراقي بتقييد مبيعاته من العملة الاجنبية وبسقف محدد لايزيد على 75 مليون دولار في كل يوم عمل. وقد ازيل اثر المادة 50 آنفاً بقرار المحكمة الاتحادية الذي صدر في العام نفسه الامر الذي ادى الى ارتفاع سعر صرف الدينار العراقي وتحسنه ليصبح على مقربة من سعره الرسمي وبفارق لايتعدى 3% في سوق الصرف ولاسيما خلال الاسبوع الاخير من شهر تموز 2015. وازاء التلازم الواسع بين مظاهر الركود ومتغيراته الثلاث (ارتفاع البطالة وانخفاض النمو وانكماش الاسعار) فان الاقتصاد العراقي صار محاطاً بظاهرة نقدية شديدة الغرابة وهي اقرب الى ظاهرة فخ السيولة Liquidity trap الذي يؤشره سلوك الطلب النقدي الشديد على الدينار والدولار معا، مما ولد علاقة ارتباط بين سعر الصرف والمستوى العام للاسعار من خلال الدور الجديد الذي اخذ يؤديه سعر الفائدة الحقيقي الموجب وهي علاقة انكماشية تتعاكس مع ما كانت عليه المتغيرات في ازمنة التسعينيات التضخمية.
فالعلاقة بين سعر الصرف والمستوى العام للاسعار هي شديدة الغرابة وتكاد تكون تحوطية Hedge في التعبير عن تطور سلوك سوق النقد نفسها ازاء الانتقال المرن من فخ سيولة بالدينار الى فخ سيولة بالدولار.
فالرجوع الى الازمة الاقتصادية التي شهدتها البلاد في تسعينيات القرن الماضي وإبان تدهور الحساب الجاري النفطي يوم كانت الموازنة تتغذى برافعة مالية بديلة قوامها الاصدار النقدي التلقائي (عبر توسيع الدين العام الداخلي الممول بحوالات الخزينة مقابل الاصدار النقدي ومن ثم ارتفاع معدلات الطلب الكلي) فان توافر السيولة المحلية بافراط وقت ذاك (اي المدة١٩٩٠٢٠٠٣)قد عززت من حالة الهروب من النقد صوب السلع خوفا من تحمل فائدة حقيقية سالبة وهو مايمكن تسميته بالتزاحم الداخلي Crowding in. وبهذا فان القوى الهيكلية المولدة للتوقعات التضخمية (ولاسيما قوى فائض العمليات - واقصد الربحية والريعية) تملكت سلوكا مؤثرا في تحريك تلك العربة او الواسطة النقدية المتمثلة بتسيير المالية العامة على تمويل الموازنة بالتضخم او عن طريق الاصدار النقدي الفائق لمواجهة اوتعويض الاثار التضخمية الناجمة عن تدهور سعر صرف الدينار العراقي كقيمة خارجية للنقود وانتقالها المباشر الى الاسعار النسبية من السلع الاساسية وغيرها كافة (ولاسيما الغذائية التي كانت تشكل 62 % من نفقات ميزانية الاسرة). وبهذا فان التوقعات التضخمية التي ولدها سوق الصرف تحولت حينها الى قوى تضخمية فعلية أشرها ارتفاع المستوى العام للاسعار بمجرد نمو معدلات السيولة العامة المحلية من خلال الاقتراض الحكومي الرخيص (اي اتباع سياسة النقد الرخيص).
فاذا كانت ظروف التضخم الجامح في تسعينيات القرن الماضي على اقل تقدير هي نتاج قوى هيكلية تمتلك ادارة سعر الصرف كدالة مولدة للتوقعات التضخمية بتفاعل سوق الصرف وهيمنة دور العملة الاجنبية على حث النمو في مناسيب السيولة وعد التمويل بالعجز عن طريق الاصدار النقدي بمثابة عربة او واسطة تضخمية تقود الى انخفاض القيمة الداخلية للنقود ومن ثم ارتفاع المستوى العام للاسعار (اي حالة الهروب من النقد الى السلع) فان حالة الكساد التي عاشها الاقتصاد العراقي في الاعوام ٢٠١٤٢٠١٦ بتنامي ازمة السيولة النقدية والميل نحو فخ السيولة،قد جعلت من اشارة سعر الفائدة الحقيقية الموجبة النقيض لاشارة المستوى العام للاسعار في ايجاد العلاقة الترابطية واثارها الارتجاعية بين التوقعات التضخمية وبين سعر صرف الدينار العراقي.
لذا بات التخلص من فخ السيولة يحمل كلفة باهضة تتمثل بارتفاع معدلات الفائدة الحقيقية باستمرار حتى وان كانت الفائدة هي الكلفة الفرصية في الانتقال الى فخ سيولة اخر بالعملة الاجنبية.فما حصل في الاعوام ٢٠١٤٢٠١٦ كان هروباً نسبياً من السلع الى النقود اي التخلي النسبي عنتملك الموجودات او الاصول المادية السلعية المحدودة المردود والعائد الاقتصادي التي يتحوط بها الافراد بالغالب كمخزن للقيمة والتحول الى الاحتفاظ بالنقد نفسه كأصل ذو مردود عالي يحمل اثر للثروة wealth effect متسرب من سعر فائدة حقيقي موجب ومتصاعد باستمرار.فحتى ظاهرة ارتفاع قيمة الدولار ازاء الدينار على سبيل المثال في ظروف انكماشية هو في جانب منه قد جاء كثمن تعويضي للتخلي عن عائد مرتفع من الفائدة الحقيقية المتوقعة على السيولة النقدية ازاء تنامي ارتفاع درجة فخ السيولة بالدينار (ولاسيما بعد غياب التوقعات التضخمية التي حلت محلها هنا توقعات الفائدة الحقيقية الموجبة المرتفعة).وهكذا امست القوى الهيكلية المولدة للتوقعات التضخمية في غياب تام (ومعظمها يتالف من قوى فائض العمليات التي تقدر نسبتها 83% من قوى الدخل الاجمالي) وانتهت تلك القوى الى وضع فقدت فيه قدرتها على ان تمتلك دالة مؤثرة مولدة للتوقعات التضخميىة كما كان يحصل في الظروف التضخمية السابقة في عقد التسعينيات الماضي (ذلك طالما ان عربة السيولة الفائضة امست شبه غائبة).اذ وفرت عربة السيولة في الظرف الانكماشي الراهن(دالة بديلة مولدة هذه المرة لتوقعات ارتفاع سعر الفائدة الحقيقي الموجب).وان جزءاً من الحركة الارتجاعية في تذبذب سعر الصرف للدينار ازاء العملة الاجنبية تاتي لامحالة من كلفة تحصيل السيولة الشحيحة بالدينار لشراء العملة الاجنبية نفسها.وطالما ان هذه الحركة الارتجاعية مستمرة في صورة سعر فائدة (وتمثل كلفة تمويل شراء النقد الاجنبي بالدينار العراقي) فان الانكماش في المستوى العام للاسعار قد استمر الى آماد اطول وامتدت آثاره حتى الوقت الحاضر.كما ان ظاهرة تقلب سعر الصرف الفعلي ظل قلقا وخضع لفخ السيولة المحلية وارتفاع سعر الفائدة الحقيقي وهي الحالة التي تمت تسميتها مجازا بالمزاحمة الفائقة لمعدلات الفائدة في ظل انكماش الاسعار Super crowding out.
2- انكماش السيولة العامة واستقطابها.
فمع هبوط الايرادات النفطية من متوسط شهري زاد على 8 مليار دولار في مطلع العام 2014 الى متوسط شهري لم يتعدى 4 ملياردولار خلال سنوات الحرب على الارهاب الداعشي والازمة المالية التي عصفت بالاقتصاد، الامر الذي اعاد هيكلة المصروفات الحكومية وبشكل اكثر انضباطاً بما يؤمن الموازنة الجارية في الاساس ازاء تعثر المشاريع الاستثمارية جراء عدم اقرار موازنة العام 2014 في حين ارتهنت الموازنة الاستثمارية للعامين 2015 -2016 باتفاقيات القروض او التمويل عن طريق الدفع الاجل ولو بشكل تمويلي محدود، ناهيك عن توقف غالبية المشاريع المستمرة وتعثر مستحقات المقاولين والمتعاقدين. وازاء هذه الضائقة المالية قدم البنك المركزي العراقي برنامجا تحفيزيا بنحو 17 تريليون دينار اسهم من خلال عمليات السوق المفتوحة من فض جانب مهم من اختناقات السيولة المصرفية ومكن الموازنة على الاقتراض بحوالات الخزينة والقروض الاخرى عبر السوق. اذ بلغ رصيد الدين العام الداخلي بنحو ٣٥ تريليون دينار وقت ذاك.
وبالرغم من ذلك، فان ظاهرة فخ السيولة استمرت عالية اذ انخفضت مؤشرات الانفاق الاستهلاكي الخاص او الاهلي عن معدلاتها العالية البالغة 14 % من الناتج المحلي الاجمالي الى مستويات متدنية من ذلك الناتج. مما يعني ان الافراد ظلوا يترقبون وضع مدخولاتهم النقدية بالامتناع عن الصرف والتمسك بدالة طلب نقدي عالية انتقلت الى مستوى مرتفع آخر متاثرة بارتفاع الفائدة الاسمية التي ولدها عامل التزاحم الخارجي في اسعار الفائدة ورافقها في الوقت نفسه ارتفاع التوقعات اللاتضخمية او الانكماشيةوبنسب اعلى كي تتعز ظاهرة سعر الفائدة الحقيقي الموجب مرة ثانية.
ان النظر هنا الى سلوك الارصدة النقدية للافراد (فخ السيولة) نجدها وكأنها غدت تراكم لفائض مستهلك غير منفق و تم التحوط بذلك الفخ لمواجهة حالة اللايقين ازاء الدخل المستقبلي الدائم وعدم استقراره ومن ثم تعاظم الارصدة النقدية للافراد من خلال الفائدة الحقيقية الافتراضية المتوقعة.
وهنا يمكنني ان اطلق على هذه الظاهرة مجازاً (بمقلوب كلفة الرفاهية جراء التضخم والتي تناولها استاذ الاقتصاد مارتن بيلي في بحثه الشهير في العام 1956).في حين عظمت حالة الانضباط المالي العالي التي خضعت اليها الموازنة العامة وعلى مدار عامين او اكثر، يرافقها توقعات فخ السيولة في الاقتصاد. وظلت النفقات العامة ملازمة لمستوى الناتج المحلي الاجمالي و لم تقل هي الاخرى عن 55 % من ذلك الناتج على الرغم من انخفاضه. اما الجهاز المصرفي العراقي فهو الاخر قد خضع لسلوك حاد ومرتفع في الطلب النقدي ومن ثم الدخول في فخ سيولة مختلف. اما الاقتراض الحكومي العالي الذي امتص معظم تدفقات البرنامج التحفيزي للبنك المركزي المشار اليه آنفا وهيمن على جل السيولة المصرفية المتاحة، قد حول المصارف الحكومية الى مستثمر كبير في الاوراق الحكومية مقابل ميل ضعيف في منح الائتمان النقدي حتى واكانت الفائدة المصرفية تتناسب والفائدة الحقيقية والتي تخضع كما ذكرنا في ارتفاعها الى حالة الانكماش او اللاتضخم في الاسعار. وبهذا فقد غدت كلفة الائتمان مرتفعة بسبب ارتفاع الفائدة الاسمية جراء (التزاحم الخارجي) في حين انكمشت المصارف الاهلية وحافظت على معدلات سيولتها العالية وبنحو فائق وهي سيولة ظلت معدة لمواجهة طلبات التحويل الخارجي وتمويل التجارة ولو بشكل مقنن.كما يلحظ ان الطلب على العملة الاجنبية عبر نافذة البنك المركزي قد انخفض بنسبة لم تقل عن ٤٠٪ من معدلاته العالية في السنوات ما قبل الازمة المالية،وان اشارة الفائدة وكلفة الحصول على العملة الاجنبية صار يقتضي نقل كلفة الفائدة المصرفية الحقيقية بالدينار الى العملة الاجنبية كثمن للتخلي عن فخ السيولة بالدينار العراقي اي بنقله الى فخ سيولة آخر ولكن بالعملة الاجنبية، في حين اضافت المصارف الامانات الضريبية المستوفاة مقدماً في العام ٢٠١٥ على ارباح المستوردي والبالغة
8 % من قيمة التحويل الخارجي الممول للتجارة الخارجية (والتي عدت في حينها بمثابة ضريبة تحويل خارجي على غرار ضريبة توبن(Tobin Tax))لتكون جزءاً لا يتجزء من مكونات سعر الصرف الموازي وهو اجراء تحوطي بالاساس في سلوك المضاربين النقدي من موزعي المخاطر قبل الغائها بفترة وجيزة.
في ضوء ماتقدم، فان ثلاثة افخاخ سيولة Liquidity traps تعرض اليها الاقتصاد الكلي وهو يتعامل بدالة طلب نقدي شديدة التاثر بتوقعات الفائدة الحقيقية الموجبة وهي:
ا-فخ سيولة الافراد وتعاظم الطلب على النقود ب-فخ سيولة المصارف الحكومية كقوة تتمتع بالسيولة السيادية.
ج- فخ سيولة المصارف الاهلية،التي تمتعت عادة بالسيولة العائلية للقوى المالكة المصرفية اوغيرها.
أقرأ ايضاً
- الضرائب على العقارات ستزيد الركود وتبق الخلل في الاقتصاد
- شهر محرم نقطة الشروع إلى التحرر - الجزء الاول
- هل جامعاتنا ورش لبناء المستقبل أم ساحات تعج بالمشاكل؟ - الجزء الاول