طالب عباس الظاهر
عشرةُ آلاف مصلِّ خلفه لأول وهلة... شيء يبهج النفس الظامئة لإقامة ناموس العدل، ويطلق لروح النصر بشارتها، لكنه الآن يدور وحيداً في طرقات الكوفة الموحشة، يلفّه سكون أزقتها الصامتة، إلاّ من همس الريح، ويغشاه رداء الليل المظلم، إلا من نور يقينه.. إذ لا رفيق أو ناصر، ولا وطن.. لا بيت.. ولا مأوى أو ركن حصينا يعصمه من طوفان غدر الناس.
غريباً يتلفت يميناً وشمالا.. علّه يلمح ظل إنسان لم تهزمه دعاية ابن مرجانة، ودهاء مكره الشيطاني المتستر.. ترغيبا بملك في الريّ عريض كأنه لا ينفد، وترهيباً بتهديدٍ بالقتل حرقاً أو صلباً أو رمياً من سطح شاهق في قصر إمارة؛ إن أحدا منهم خالف أمر الحاكم، وتحدى سلطته الغاشمة، فناصر أو آوى أو ساعد أو حتى تكلَّم مع خارج على شرعيتها المزعومة.. المأخوذة من فتوى مشرّعٍ مأجور.. باع دينه بدنيا غيره، وشرى آخرته بالثمن الأوكس!.
إلا بطلة منهم... من أهل الكوفة، معدنها من معدن الأفذاذ.. سيقف لها التاريخ إجلالاً، فقد عادل اظفر شجاعتها كل خذلان رجال الكوفة، وكشف سوءة خيبتهم، فلم يعد ينفعهم بعد الآن والى الأبد، أي تبجحٍ بشوارب خلّب،! ومهما كان لونها، وكانت درجة كثافتها، وقد فرّت عنها الى الخنوثة رجولتها.
(منلوج داخلي لمسلم بن عقيل): "عُد يا سيدي.. يا أبا عبد الله ولا تقدِم أليهم، فإن لك في الأرض متسعا رحبا.. لا يمكن أن يضيق بإنسان أي إنسان، فكيف بابن بنت رسول الله، وابن وصي رسوله الأمين، وحجته على العالمين، وإن هنالك لابد في الناس بقية رجال.. رجال، ليس من طينة هؤلاء الموجودين في الكوفة".
(2)
عشرة آلاف مصلٍّ في لحظة سلم، وحينما تقرع للحرب طبول؛ يتشتتوا كالعهن المبثوث، ويتوارون عن الأنظار كالجراد المنتشر، وإذا بلحظة فاصلة من التاريخ لا أحد هناك، ومسجد الكوفة خاوٍ على عروشه من المصلّين، إلا من رجع صدى لتهجد عابد.. وحيد..غريب عن هذي الديار.. وامام همام جاء سفيرا لسيده ويخذله الناس... يصلّي منفردا.
وإذا بهم فجأة يتنكرون لعهودهم وينكرون إن للحسين بن علي في أعناقهم بيعة صحيحة عقدوها على يد ابن عقيل، وإنهم قد أرسلوا له عشرات من رسائلهم، إن أقدم.. فقد أينعت الثمار، وإنّ لك في الكوفة جندا مجندة.. يرجون مرضاة الله، وإذا بهم بلحظة حسم قد لا تتكرر كثيراً؛ يرجون دنانير السلطان، ويرهبون كيده، رغم إن كيد الشيطان والسلطان ضعيف!
(منلوج داخلي ثان لمسلم بن عقيل): "عُد يا مولاي.. يا أبا عبد الله ولا.. لا تقدم فإن الكوفة عادت لسجيتها الأولى، ومثلما غدرت بأبيك في ذات فجيعة لم ولن يندمل جرحها في قلب الإسلام.. ها هي تعاود الغدر بي وتحاصرني بمشاعل النيران، وقذف الحجارة ارضاءً للحكّام، وتتوثب للغدر بك لا حقاً في عرصات كربلاء!".
(3)
عشرة آلاف مصلٍّ من أشباه رجال، أو رجال هزلٍ - لا غير - عندما يجد الجد ؛ لا ترى أحدا منهم يقف على قدمي فحولته المكسورة بآلة دعاية.. يبثها بين الناس مكر ابن مرجانة الملعون، بوصول جيش الشام الجرار الى مشارف الكوفة.. لإبادة الحرث والنسل في ربوعها، ولتسلّم هذه في الآخر سفير الحسين وابن عمه الى الطاغية ابن آكلة الأكباد.. ليشفي فيه غليله الأموي.. فيمضي شهيداً الى الشمس يغزل ذهب خيوط أشعتها سفراً خالداً.. ولتبقى الكوفة غافية بأحضان هزيمتها.
(منلوج ثالث لمسلم بن عقيل): بثمن بخس باعت الكوفة وعودها، وتمادت تلهث خلف وعود الجاه والسلطان.. دالقة اللسان، ومأخوذة بجبنها وطمعها، ولم تكتف بهذا... بل قاتلت الحسين بن علي وأهل بيته وأصحابه، إذ إن طريق الانحدار كما النجاح، ولكن بخطوة الى الخلف ثم تبدأ رحلة السقوط الى الهاوية وبئس المصير.
أقرأ ايضاً
- كربلاء منازل الشمس والقمر
- في كربلاء أدركت الشمسُ القمر
- احتفال بيوم الربيع بدأ من العراق واعتمدته الأمم الأخرى رأساً لسنتها الشمسية؟