د.عليّ حُسين يوسُف
هناك تشابكٌ كبيرٌ بين مفهومَيْ الوعيِّ الفرديّ والوعيّ الجَمعيّ منَ الناحيةِ البنيويةِ , فبحسب رأي البعض يعدّ الوعيّ الجمعيّ محصّلة وعي الأفراد , فالوعي الفردي ــ بهذا المعنى ــ يمثل بأجزائه المتعددة اللبنات المكونة لثقافة المجموع , فيما يرى آخرون خلاف ذلك الرأي , هذا التشابك البنيوي الحاصل بين المفهومين انعكس على النظر إلى مسألة تطور المجتمعات حتى أصبحت تلك القضية أمرا إشكاليا مختلَفا عليه , فتارةً يجعل البعض تلك المسؤولية تقع على عاتق عدد محدود من الأفراد , فيما يجعلها آخرون من مهمات المجتمع ككل , لكنَ الأمرَ عند هيجل ــ مثلا ــ يأخذ منحى آخر لا سيما في نظرته إلى ارتباط التطور بالوعي فقد أصر على أنّ كل ما يحصل من تغيّر في العالم المادي الحقيقي إنما هو مجرد انعكاس لا إرادي لتقدم (روح العالم) وتطوره , الأمر الذي حدا بماركس أنْ يرى في هذه اطروحة هيجل ميتافيزيقيا لا طائل من ورائها , فما ذا يريد هيجل بروح العالم ــ يتساءل ماركس ــ ؟ إنّهُ طرح مشوش يستند إلى جدل مقلوب , ويقف على رأسه بدل عن رجليه , مما جعله ــ أي ماركس ــ يتبنى دعوة التصحيح بأنْ يجعل هذا الجدل يقف على قدميه من خلال تأكيده على أنَّ ديالكتيك الوجود يبدأ من الواقع المادي ثم يرتقي إلى عوالم الفن والفلسفة وسياسة الدولة وهو يقع على عاتق طبقات المجتمع التي تستشعر الحاجة إلى التطور , أي تستشعر الحاجة إلى تغيير أوضاعها , لذلك يقول ماركس: إنّ الفكرة ما هي إلّا العالم المادي بعد أنّ يعكسه ذهن الإنسان ويصوغهُ في شكل أفكاره , وعليه فإنّ التطور عند ماركس يعكس طريقة التعامل الانساني مع الواقع المادي.
ومع صحة نتائج هذا الطرح واتساقه مع المنطق يصرّ كثير من أصحاب الآيديولوجيات عندنا على التشبث بالخطابات المحلّقة بعيدا عن الواقع كما هو الحال عند هيجل من خلال احتقار الواقع وجعله في المرتبة الثانية , وإعادة امجاد الروح الأبوية , وبث الحياة في خطابات الوهن بحجة أنّ الدنيا زائلة وفانية وما النجحُ إلا بالتمسك بنظريات الوهم والتغني بأمجاد السلف بطريقة طوباوية في زمن نحن بأمس الحاجة إلى التعامل مع الواقع كمعطى خلاق ؛ الواقع الذي يتطلب الانغماس بدواخله لفهمه ودراسته وتغييره وتعديله وتطويره , وهذا كفيل وحده بجعلنا ذوات منتجة لا ذوات حائرة ما فتأت تبحث عن هويتها منذ مئات السنين.