- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
لَوْ أَنَّهُم: قِيمَةُ كُلِّ امْرِىء
حجم النص
(٥) بقلم:نـــــــــــزار حيدر لا يكفي أنّك تعرف المسؤول منذُ الطّفولة لتتركهُ بِلا رقابة، أو انّه معروفٌ ومشهورٌ عند الناس لتدعهُ وشأنهُ بِلا مُتابعة، أو انّهُ صاحبُ إنجازٍ عظيمٍ أيّام كان في (المُعارضة) لتغضّ الطّرف عنهُ، أو انّه حقّق منجزاً ما في السلطة في يومٍ من الايّام لتلهو عنه، أو انّه صاحب الشّهادات العليا التي لا يُشقُّ لها غبارُ لتطمئنّ له، أو انّ الناس كانوا يحلفون برأسه فلا تتوقّع منه انّه يمدّ يدهُ الى المال العام او يُفسِدَ او ينحرف. ابداً، فالإنسانُ معرّضٌ للامتحان والاختبار دائماً وأبداً، ولذلك فهو معرّضٌ للنّجاح والفشل باستمرار، اذ ليسَ بيننا اليوم معصومٌ لنطمئِنّ اليه بالمطلق، وصدق الشاعر الذي وصف حال الاختبار بقوله؛ نفسي وشيطاني ودُنيا والهوى كيف الخلاص وكلُّهم اعدائي؟ ولذلك؛ فاذا كانت السّيرة الذّاتية مهمةٌ جداً لمعرفة ماضي الانسان لاختياره لموقعٍ ما من مواقع المسؤوليّة، فإنّها ليست كافية ابداً لتحديد مسارِ حاضرهِ ومستقبلهِ، وانّ الاختبار فقط لا غير هو المعيار الوحيد الذي يُمكن الاطمئنان اليه لتحديد مسارهِ الجديد في موقع المسؤوليّة، ولذلك قيل (عِنْدَ الامتحان يُكرمُ المرءُ أو يُهان). لا يكفي أن تسألَ عن ماضي الرّجل، ولا يكفي أن تعرف اين درسَ؟ ومَن هو أستاذهُ؟ والى ايِّ حزبٍ ينتمي؟ وما الذي انجزهُ فيما مضى من تاريخه؟ فقد يتبدّل كلّ شَيْءٍ لحظة انْ تسنُّمهِ منصباً جديداً أو يتصدّى لموقعٍ ما. كم مِن ناجحٍ في موقعٍ ما فشل في موقعٍ آخر؟ وكم من فاشلٍ نجحَ في موقعهِ؟. كم مِن صاحبِ تاريخٍ نظيفٍ أزكمت أُنوفنا رائحة فضائحه الجنسية مثلاً أو الماليّة لحظة اعتلائه السلطة؟ كم من صاحبِ خُلُقٍ رفيعٍ فسدت اخلاقُهُ لحظة جلوسهِ خلفَ الطّاولة؟ كم من ضحيّةٍ تقمّصت شخصيّة الطاغوت المستبدّ لحظة استخلافهِ في السّلطة؟ وكم من صاحبِ منجزٍ عظيمٍ وتاريخٍ جهاديٍّ طويل إنقلب على حقيقتهِ وواقعهِ وتربيتهِ وتاريخهِ ليملأ الفضاءات فساداً وفشلاً وتراجعاً ونكوصاً بسبب عقليّتهِ التَّدميريّةِ التي نمت عِنْدَهُ خلال اعتلائِهِ السّلطة بما لا يُطيقها ولا يتحمّلها؟!. وتبدأ المشكلةُ عندما لا نتصوّر انّ النّاس تغيّرها السلطة مثلاً او المال او الجاه! عندما نتخيّل انّ الصّالحَ يبقى صالحٌ طوال عمُرهِ، والطالحُ يبقى هكذا الى ان يموت! مهما تغيّرت الظّروف وتبدّلت المواقع والمواقف!. عندما ننسى انّ للموقعِ تأثيرٌ على سلوكيات المرء، وللمال تأثيرٌ، وللمصالح تاثيرٌ، وللزمّن كذلك تاثيرٌ، فضلاً عن الظروف!. عندما نستصحب صورة اْلمَرْءِ وحسن الظّن طوال الوقت، ولذلك يستغرب البعض، كيف يُمكن ان نغيّر اليوم موقفنا من زيدٍ أو عبيدٍ في الوقت الذي كنّا بالامسِ ندعمهُ ونؤيّدهُ؟؟. انّ الاستغراب مردُّهُ الى عدم وعي علة التعامل مع المسؤول، فعندما يكون التأييد، مثلاً، لشخصهِ فلن يتخيّل احدٌ انّه سيتغيّر في يومٍ من الايّام ابداً، اما اذا كان للمنجزِ فسيتغيّر من يوم ٍلآخر تبعاً للنجاح والفشل، ان التّاريخ، والواقع كذلك، يحدّثنا عن الكثير جداً من مثل هذه الحالاتِ والنّماذج، التي كان يُشار لها بالبنان، وعلى كلّ المستويات، الا انّها انقلبت على واقعها في لحظة اختيارٍ واختبارٍ تاريخيّةٍ لتتساقط في وادٍ سحيقٍ وتهبطَ الى الحضيضِ. وما قصّة [مثلُ الكلبِ] الا دليلٌ ونموذجٌ. لقد آتى الله تعالى بلعم بن باعوراء آياته، ولكنّهُ فشل في أوّل امتحانٍ فتسافلَ وسقط الى أرذل الدّرجاتِ!. يَقُولُ عنه تعالى في محكم كتابه الكريم {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. وذاك الزّبير بن العوّام، ابن عمّة رسول الله (ص) الذي طالما كشفَ بسيفهِ الكربَ عن وجهِ رسول الله (ص) وهو أحد أربعةٍ فقط الذين ثبتوا ووقفوا الى جانب أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاةِ رسول الله (ص) [وهم كلٌّ من سلمان وابي ذر والمقداد والزّبير] وهو اوّل من بايعَ أمير المؤمنين (ع) خليفةً للمسلمين بعد مقتل الخليفة الثّالث طائعاً مُختاراً غير مضطرّ، الّا انّ هذا الزُّبير إِنهار عند أوّل اختبارٍ صعبٍ، بعض الشيء، عندما تعارضت أهواءهُ مع دينهِ، لينقلبَ على تاريخهِ النّاصع وصلةِ القربى مع رسول الله (ص) وانجازاته المشهود لها، اذا به يرفع سيفهُ بوجهِ أمير المؤمنين (ع) فقال عنه عليه السلام {مَا زَالَ الزُّبَيْرُ رَجُلاً مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ حَتَّى نَشَأَ ابْنُهُ الْمَشْؤُومُ عَبْدُ اللهِ}. وهي إشارةٍ الى حقيقةٍ في غاية الرّوعة والاهميَة، وهي؛ ليسَ المهم ماذا كنت! وانّما المهم ماذا انت عليه الان! ليس المهم على يدِ مَن تتلمذتَ! إِنَّما المُهم ما تنجزهُ اليوم! فقد تَكُونُ بداياتُك طاهرةً، الا انّ خاتمتك فاسدةٌ! ولذلك نقرأ في التاريخ ان الكثير من (حواريّي) الأئمة عليهم السلام يختمون حياتهم بفسادٍ كبيرٍ! فهل يجوزُ لنا انْ نستصحبَ ماضيهم للحاضرِ والمستقبلِ بعُيونٍ معصوبةٍ؟؟. لقد شكّل الامام أمير المؤمنين (ع) لحظة اعتلائهِ السّلطة كخليفةٍ للمسلمين، قوّةً أمنيّةً أسماها (شَرَطَةُ الخميسِ) لمراقبة كلّ مسؤولٍ في الدّولة، وفيهم الصّحابة والتّابعين وأهل السّابقة في الاسلام والجهاد والتضحية، لماذا؟ لانّهُ يعرف حجم تحدّيات السلطة على الانسان، فلا يكفي ان يعتمد على الرّادع الذّاتي لمراقبة سلوكيّات المسؤولين، أكان الدين او التاريخ الناصع او المنجز الجهادي او غير ذلك، ابداً، فالانسانُ خارجِ السّلطة يختلف عنه وهو في السلطة، وانّهُ بالامس يختلف عنه اليوم، فالمال والسلطة والجنس أدوات اختبار خطيرة يتعرّض لتحدّياتها الانسان في حياته، ولذلك ينبغي ان يُراقب دائماً كلُّ من يشتغل بالشأن العام، ولهذا السّبب قال الشهيد الصدر الاول؛ ترى هل جاءتنا سُلطة هارون الرّشيد ولم نقتُل الامام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام؟. فمعيارُ النّزاهةِ والاستقامةِ ليست وانتَ تجلس في بيتكَ أو في مغارةٍ معتزلاً الناس، بعيداً عن كلّ انواع البلاء والاختبار والامتحان، أبداً، انّما المعيارُ يبدأ لحظة تسنّمك منصباً، فكم من تلاميذِ الصّدرِ الاوّل كانوا طاهرينَ نزيهينَ بسيطينَ متواضعينَ، الّا انّهم انغمسوا بالفسادِ وبكلّ أشكالهِ، من قمّة رؤوسهم الى اخمص اقدامهم، بمجرّد ان تسنّموا منصباً او اعتلَوا سلطةً؟!. لقد سألتُ مرّةً أحد تلامذتهِ المقرّبين، وهو الان قيادي كبير في الحزب الحاكم والدّولة، عن سرّ كلّ هذا الفساد والانحراف الذي أصيبَ بهِ تلامذة الشّهيد الصّدر الاوّل؟! فأجابني؛ انّه اختبار السّلطة يا عزيزي! فلقد دمّرنا وفضحنا! وأضاف؛ لو تطّلع على افعالِ بعضهم اليوم للعَنتَ الأيّام التي صَلَّيْتَ بها خلفهُم جماعة!. آخر، كان يتوضأ قبل ان يبدأ يومهُ في الوزارة، ليحلّل المال العام الذي يسرقه يومياً من قوت الفقراء بذرائعَ شتّى!. تعالوا إذن، لا نكتفي بما نعرفه عن المرء عندما يعتلي السلطة، أيّة سُلطة مهما كانت حقيرة، وانّما نتعامل معهُ بما هو اليوم، نراقبهُ ونُسائلهُ ونحاسبهُ، نُثني عليه اذا أنجزَ ونلومهُ اذا فشِل. لا نقيّمهُ بمعايير دينهِ ومذهبهِ وعباداتهِ، فقد تكون عادتهُ التي لا يستغني عنها على حدّ وصف الامام المعصوم. وكذلك لا نقيّمهُ بمعايير انتمائه الحزبي والتاريخي وبمعايير اثنيّتهِ ومنطقتهِ وعشيرتهِ وانّما بمعايير الانجازِ فحسب، وهو الامر الذي أوضحهُ الخطاب المرجعي الاخير عندما دعا الى تقييم المسؤول بمعايير العمل والانجاز وليس بالمعايير الجاهلية بكلِّ أنواعِها. انّهم يستغلّون غفلة الناس عن هذه المعايير، فيتاجرونَ بتاريخهم وشهدائهم وبعض انجازاتهم، وكذلك بدينهِم ومذهبهِم وممارساتهِم للشّعائر، لتضليلهِم والهائهِم عن الواقع المرّ الذي تسبّبوا به لتراكم فشلهِم وفسادهِم!. انّ المعيارَ دقيقٌ جداً عندما قال أَميرُ المؤمنين (ع) {قِيمَةُ كُلِّ امْرِىء مَا يُحْسِنُهُ}. يتبع E-mail: nhaidar@hotmail. com