آلاف الأطنان من الكتل الصخرية نحتتها يد الحضارة التي تربعت على أرض الرافدين منذ آلاف السنين ، أبدعت فيها وقدمت للإنسانية أرثاً ثرياً من العلوم والبيان . وأقوام كثر عبروا تلك الأرض أما فاتحون وأما عابرو سبيل أضافوا واستلهموا منها .. وعلى امتداد تلك الحضارة الخصبة نشأ نسجياً أخلاقياً ومعرفياً على درجة عالية من الرقي أضاف فيما أضافه من قوانين وضعية في مختلف مجالات الحياة لازالت اغلبها معلقة في دساتير العالم لغاية الآن .. أنها حضارة أهم مايميز ثرائها هو التنوع وهي من نقلت العالم الى حياة التحضر المدنية في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد .
وبعد مرور مئآت الآلاف من السنين أرى وللأسف أننا لم نتمكن من أستلهام ولو جزءاً يسيراً منها في إدامة واقعنا ألذي أعادتنا فيها مجمل تصرفاتنا وعاداتنا القبلية الى حياة أشبه بحياة البداوة والتخلف وهذا ما شكل انحرافاً كبيراً في حياة التحضر المدنية التي كنا قد قدنا البشرية اليها قبل ما يزيد عن الستة آلاف عام عندما دخل العالم في الأمتحان الصعب بفنائه أو دوامه بعد أن أنهى 99% من عمره المقدر بمليوني عام في غيابت التوحش والهمجية .
عندما نستجمع أفكارنا قليلاً ونتوقف عند كل أثر وبصمة أودعتها تلك الحضارة على أرض العراق والتي عصمتها متانتها ودقتها من الأنجراف في سيول وأمطار وأعاصير طغت على العالم أبان التغييرات الجيولوجية والمناخية منذ آلاف السنين ، نرى أننا لم نتمكن لغاية الآن من الوقوف الجاد أمام تلك الحضارة والأسباب التي دعت الى أننا فقدنا أبسط قيم التحضر الفكري والعلمي والأخلاقي خلال الفترات الماضية ولم تستطع الدولة العراقية الحديثة منذ نشأتنا من وضع نظام أخلاقي متحضر لشعب العراق يؤهله للدخول بقوة ويستعرض فكره المتقدم امام مسرح الحضارات الحديثة والتي تناسلت إضافات حضاراتها من جذور أصالة حضارتنا وإعتاشت عليها ، إلا تمكنت بفعل إصرارها القوي على الحياة أن تقدم للعالم حضارة فاقت كل التوقعات على الرغم من أن أمتداداتها التأريخية لم تتجاوز بضع مئآتٍ من السنين !
لقد كنا نتحدث في كتب التأريخ عن الأمتدادات التأريخية والزمانية والمكانية لحضارة وادي الرافدين حتى ليخال للقاريء بأننا من غزونا القمر أو حتى نحن من حللنا الشفرة الجينية للأنسان .. ووضعنا عشرات الأقمار الصناعية (عراقسات و بغدادسات ) على طول مدارات الأرض وعرضها .. والغريب أن الكل يتحدث عن العمق الحضاري والذي من المفترض أن يكون قد قذف بنا الى قمة هرم التمدن المعاصر مع شدة العصف الحضاري الذي ينتاب قادتنا بين الحين والآخر .. وهناك يتبادر السؤال : لماذا هذا التخبط ونحن نجوس في وحل الحضارة ؟ وكيف وصلنا لما نحن عليه الآن مع ذلك السفر الرائع الذي سجلته البشرية لنا .. ولنا وحدنا نحن من أدخلنا البشرية الى المدنية المعاصرة ولكننا خرجنا منها ومن أوسع أبوابها !! .. كل ذلك تراه في التصرفات اليومية للشعب ومؤسسات الحكومة فجزأً يتحمله الشعب وجزءاً أكبراً تتحمله تلك المؤسسات التي أسست للقوانين الوضعية وتلك التي تعمل على تطبيقها .
جولة بسيطة في شوارع بغداد لترى مستوى الثقافة التي وصلنا إليها مرسومة على ملامح وجوه أبناء الشعب فالقهر والفاقة أثرت بشكل كبير على وجوههم فتراها مسودة مصفرة من أثر جوع والتعب ترهقهم ذلة الزمن الذي دفعنا أنفسنا إليه دون قصد .. والدوائر الحكومية ليس بأحسن حال فأنت ما أن تدخل بعض المؤسسات الحكومية حتى ترى أن بناياتها تملؤها الأوساخ جدرانها مشوهه ولا توجد فيها أدنى متطلبات الحياة الحديثة ، والكل يعلم أن كفاءة الأداء للموظف ترتفع عند درجات الحرارة بين 20 و 30 درجة مؤية وتلك الدوائر لا تعبأ بذلك مطلقاً ، نحن بحاجة لبحث عن العوامل التي تؤدي لزيادة كفاءة الموظف لكي نوفرها له ، وفي بعض المؤسسات الحكومية لا يوجد ماء صالح للشرب ولا مكان مناسب لانتظار المراجعين .. لا أعرف أين ذهبت تلك الحضارة وكيف نثبت للعالم أننا نحن أصحابها .. وإلا من بنى تلك القصور التي ثبتت على مدى الزمن الشاسع لماذا نحن لسنا قادرين على صباغة دائرة بسيطة وتنظيفها وما قيمة الصبغ ولماذا لا يبادر الموظفون لصبغها أو ليست هي بيتهم الثاني ؟. وغيرها من الأوجه الحضارية للبلد شغلتنا عنها مناصبنا ولم نعد نرى أمامنا إلا مصالحنا الشخصية التي لا تثير في داخلنا إلا حب المنافع بعيداً عن مصلحة الوطن .. أن نظافة المؤسسات الحكومية يتبع لنظافة الحكومة ذاتها ، فعلى الحكومة أن تحاسب بقسوة مدراء تلك المؤسسات الذين أغرقوا مؤسساتهم بسوء تصرفهم وعدم جديتهم . نتمنى على أن ينظر الجميع بجد الى الوجه المشرق من الحضارة فهي عنوان للتقدم والرقي وهي تعويذة الشعوب التي تتطلع ببلدانها الى الأمام .