- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
منبر أم أعواد ؟ - الجزء الاول
بقلم: نجاح بيعي
بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) في اليوم العاشر من المحرم الحرام عام 60هـ, وورود سبايا (آل الله) من كربلاء الى الشام وإدخالهم إلى مجلس يزيد (لعنه الله), يروي لنا التاريخ كما ورد في (الإحتجاج للطوسي ج 2 ص 38- 39) أن الطاغية يزيد: (أمر بمنبر وخطيب ليخبر الناس بمساوي الحسين وعلي عليهما السلام وما فعلا، فصعد الخطيب المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم أكثر الوقيعة في علي والحسين، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد لعنهما الله فذكرهما بكل جميل، فصاح به علي بن الحسين (عليه السلام): ويلك أيها الخاطب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوأ مقعدك من النار. ثم قال علي بن الحسين (عليه السلام): يا يزيد ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلمات لله فيهن رضا، ولهؤلاء الجلساء فيهن أجر وثواب. فأبى يزيد (لعنه الله)عليه ذلك. فقال الناس: يا أمير المؤمنين ائذن له فليصعد المنبر فلعلنا نسمع منه شيئا. فقال: إنه إن صعد لم ينزل إلا بفضيحتي وبفضيحة آل أبي سفيان. فقيل له: يا أمير المؤمنين وما قدر ما يحسن هذا؟. فقال: إنه من أهل بيت قد زقوا العلم زقا. فلم يزالوا به حتى أذِن له, فصعد (عليه السلام) المنبر فحمد الله وأثنى عليه, ثم خطب خطبة أبكى منها العيون، وأوجل منها القلوب، ثم قال (عليه السلام): أيها الناس أعطينا ستا وفضلنا بسبع..) الى آخر الخطبة. ويذكر أنه لما فرغ المؤذن من الأذان والإقامة تقدم يزيد (عليه اللعنة) فصلى صلاة الظهر..).
هذا المقطع التاريخي المهم يثبت لنا أمور عدة مهمة منها أنه يكشف لنا عن أول صيحة حق أطلقت بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) بوجه المنهج الأموي الدموي لسلطة الطاغية يزيد والخارج عن فلك الإسلام والمسلمين وفي عقر مجلسه في الشام: (فصاح به علي بن الحسين (ع): ويلك أيها الخاطب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوأ مقعدك من النار). وهذه الصيحة (الصرخة) التي أطلقها الإمام علي بن الحسين (ع) هزت أركان أعتى آلة إعلامية ارتكز عليها نظام حكم بني أمية متمثلاً بذلك الخطيب المرتزق الذي انتدبه الطاغية يزيد للنيل من الإمام الحسين (ع) وأهل بيته أثناء وجودهم كسبايا في ذلك المجلس. صيحة لا يقوى على إطلاقها في ذلك الزمان والمكان إلا إمام معصوم مُسدد من الله تعالى فكان عليه السلام مصداق الحديث الشريف: (أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر) بحق. وكانت تلك الصيحة إيذاناً ببدء صفحة تاريخية جديدة حسينية ـ ثورية مشرقة, في طريق النهضة الإصلاحية الحسينية والتي ثبتها دعائمها وأرساها الإمام زين العابدين (ع) عبر المنبر الحسيني.
كما ويكشف المقطع أيضاً أن الإمام علي بن الحسين (ع), كان قد أعطى مُحددات (أربعة) تخص الخطيب وخطابه والمنبر وصاحبه, وهذه المُحددات كفيلة بإرجاع الجميع الى جادة الصواب ووضعهم على السكة الصحيحة وفق المعيار الإسلامي الإصلاحي, فيما لو وقع هؤلاء الأربعة في الجانب المنحرف والشاذ في مسيرة الأمة, كما هو الحال في دولة بني أمية المتمثل باللعين يزيد وحاشية سلطته الظالمة, والمُحددات الأربعة هي:
1ـ وتخص الخطيب الذي يعتلي تلك الأعواد (المنبر) والذي يجب عليه أن لا يشتري مرضاة المخلوق أي مخلوق كان بسخط الخالق عزوجل, لأن في ذلك هلكته وهلكة من رضي بخطابه بورودهم النار يوم القيامة لا محالة: (ويلك أيها الخاطب اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوأ مقعدك من النار). فالخطيب هنا عبد مأجور رضي أن يقع دائماً تحت وطأة الإملاء من قبل الحاكم الظالم وسياسته المنحرفة, فيحرف الكلم عن مواضعه إرضاءً له ولتوجهاته الباطلة, فيكون الدين لعق على لسانه, ويحوطه ويلوكه ما درّت دراهم الحاكم الظالم, على حساب دين وعقائد الناس من الجلساء والحاضرين تحت منبره, فتضطرب عقائدهم ويمحق دينهم وتسحق أخلاقهم وفضائلهم, ولا يكونوا إلا أدوات هدم وإنحراف وشذوذ في المجتمع ما توردهم الهلكة والنار يوم القيامة.
فعلى الخطيب أن لا يشتري مرضاة المخلوق بسخط الخالق عزوجل حتى لا يتبوء مقعده من النار
غداً يوم الحساب. بل على الخطيب أن يتحرى (التقوى والإخلاص لله تعالى في القول والأداء والسلوك، فيجعل الله سبحانه نصب عينيه ويستحضر رقابته عليه ويسعى إلى رضاه وقبوله ويكون عمله لوجهه الكريم، فإنّ من أخلص لله تعالى حقاً واتقاه أوقظه في مواضع الغفلة ونبّهه على مواضع الخلل ويسّر له سبيل الرشد، ثم بارك له سبحانه في عمله في هذه الحياة وما بعدها).(1).
كما أن (الخطباء يتحملون المسؤولية الكبرى بلحاظ انهم يجسدون الوجه الإعلامي لحركة عاشوراء ولمشروع سيد الشهداء عليه السلام)(2).
2ـ وتخص (الخطاب) ذاته. وخطاب الخطيب هنا عليه أن يحرز أمرين لا ثالث لهما حسب ما حدّده الإمام علي بن الحسين (ع) هما: مرضاة الله (عزوجل), وأن يكون فيه صلاح شأن الجلساء عامة في دنياهم وآخرتهم, وجالبة لهم الأجر والثواب من الله تعالى: (يا يزيد ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلمات لله فيهن رضا، ولهؤلاء الجلساء فيهن أجر وثواب). فيجب تضمين الخطاب على مصاديق ذلك وعلى (ما يثبت أصول العقيدة الحقة ودلائلها المحكمة من أدلة قوية ووجدانية بأساليب ميسرة وقريبة من الفهم العام، كما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية وآثار العترة الطاهرة، وذلك لمزيد ترسيخها في نفوس الناس ودفع الشك والشبهة عنها بما يزيح تلك الشبهة عنها ويزيل وهن التقليد والتلقين فيها.. وليذكّر المبلغ تذكيراً مؤكداً بالدار الآخرة وأهميتها حيث يؤتى كل امرئ بصحيفة أعماله في هذه الحياة وتوضع موازين القسط ليوم القيامة فيكون لكل امرئٍ ما سعى إليه من خصال وأعمال فيجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا الحسنى)(3).
3ـ وتخص صاحب الأعواد (المنبر) حيث دأب بنو أمية بالعمل على استغلال المنبر ظلماً وعدواناً عبر تاريخهم السيء الصيت, حتى اختزلوه بهم وبخطهم الفكري الأموي المنحرف. والذاكرة الحية للأمة لا تزال تحتفظ بما قاله الإمام الصادق(ع) نقلاً عن أبيه عن جده عليهم السلام: (أن رسول الله (ص وآله) أخذته نعسة وهو على منبره, فرآى في منامه رجالاً ينزون على منبره نزو القردة يردون الناس على أعقابهم القهقري, فاستوى رسول الله (ص وآله) جالساً والحزن يعرف في وجهه فأتاه جبرئيل بهذه الآية (وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس والشجرة المعلونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً) يعني بني أمية)(4).
والإمام علي بن الحسين (ع) بصيحته تلك واستيذانه اللعين يزيد بأن يصعد الأعواد, هي حركة تاريخية مفصلية جبارة, استهدفت تحييد الطاغية يزيد وعزله, وبنفس الوقت قام باستئصال المنبر وتحريره من براثنه, ليُرجعه ويُعيده منبراً كما عهدته الأمة من زمن رسول الله (ص وآله).
لذا فعلى أصحاب المنبر أو القيّمين عليه أن يُعطوا النصف من أنفسهم ويسمحوا ويفسحوا المجال دائماً للخطباء والمبلغين الربانيين الذين ينشدون مرضاة الله تعالى وإصلاح الناس ويمكنوهم بأن يرتقوا المنبر الحسيني. وأن لا يحتكروه لأنفسهم ويجعلوا منه منصة إعلامية ـ إعلانية لتوجهاتهم الفكرية والمذهبية الخاصة, ولمشاريعهم الدنيوية البحتة, ولمخططاتهم التي ليس بالضرورة تتطابق مع منهج خط أئمة أهل البيت عليهم السلام, والشرع والدين والصلاح والإصلاح في الأمة, إن لم تكن خارجة عن الدين والملة أصلاً: (إن الهدف الأسمى للحركة الإصلاحية التي قام بها سيد الشهداء (سلام الله عليه) هو حفظ الدين وترسيخه, مقابل المنهج الأموي الذي كان قائماً على هدم ركائز الإسلام وقيمه كما يظهر من شواهد كثيرة تعرف بمراجعة النصوص التاريخية)(5).
4ـ وتخص الأعواد ذاتها. فهي بالنتيجة مجرد أعواد خشبية مرصوفة لا غير إن جرت الأمور عكس مرضاة الله تعالى, ومنعدمة الحاجة فيها الى صلاح الجلساء والحاضرين ولعموم الناس, بل ويكون المنبر واجهة لإرضاء المخلوق (الحاكم الجائر) (الطاغية المنحرف) بعد أن باع (الخطيب) نفسه له ورضي بسخط الخالق, بالتالي واجهة للإسلام الزائف الواقع ضمن المخطط الأموي الشاذ. وإلا فهو منبر مُحمدي ـ حسيني إصلاحي ثوري نهضوي له دور فاعل في الأمة في رُقيها وتكاملها, وبانتشالها من محنة (الجهالة) و(حيرة الضلالة) ولعل رسالة المنبر الحسيني في الأمة تتلخص في:
ـ ذكر ما جرى على أهل البيت (عليهم السلام) من مصائب ورزايا
ـ نشر الدين وترسيخه في عقول المسلمين وقلوبهم من خلال بيان المعارف القرآنية ودفع الشبهات بالأدلة الوافية المقنعة وتربية نفوس المؤمنين على الورع والفضيلة والقيم المثلى
ـ حفظ الدين وترسيخه مقابل المنهج الأموي الذي كان قائماً على هدم ركائز الإسلام وقيمه(6).
فعلينا جميعاً نحن أتباع الإمام الحسين (ع) أن نعي وندرك بأن دور المنبر الحسيني اليوم, هو امتداد حي لا ينفك عن دور منبر رسول الله (الذي أناطه الله (عزّ وجل) برسوله (ص وآله) الذي هو أول من ارتقى المنبر في الإسلام، وقد شرح القرآن لنا دوره في قوله (عزّ وجل):﴿هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين). حيثُ أشارت الآية الكريمة الى أن الرسالة النبوية - التي كان المنبر أداة فاعلة لتبليغها - ترتكز على ترسيخ الدين بتزكية النفوس وتنقيتها من أدران الظلمات والأمراض الروحية والأخلاقية وعرض معارفه القرآنية وغرس الحكمة في القلوب بمصاديقها المتنوعة علماً وعملاً)(7).
ـ الهوامش:
ــــــــــــــــ
ـ(1) من وصايا المرجعية العليا للخطباء والمبلغين عام 1441هـ
ـ(2) من توصيات من المرجعية الدينية العليا للخطباء والمبلغين عام 1438هـ
ـ(3) المصدر في (1)
ـ(4) بحار الأنوار ج 55 ص350
ـ(5) من وصايا المرجعية العليا لخطباء المنبر عام 1440هـ
ـ(6) المصدر السابق
ـ(7) المصدر السابق
أقرأ ايضاً
- كيف السبيل لانقاذ البلد من خلال توجيهات المرجعية الرشيدة ؟
- الانتخابات الأمريكية البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الاعظم
- ما دلالات الضربة الإسرائيلية لإيران؟