بقلم: عادل الموسوي
لعلّه من سوء شيءٍ ما كالحظ -مثلاً- إن يشهد الموسم الزراعي هذا العام وفرةً ملحوظةً من إنتاج الحنطة، فتلتهم النيران مئات "الدونمات" من المحصول في عددٍ من المحافظات، وكأن الوفرة في الحقيقة وفي تفكير من أضطر أن يكون متشائماً "ما تطيح إلنا".
"رياح الخماسين وفرن أم السعد والحمام يشعلون النار في قرية الحلوانية.. القرية تحولت الى كوم رماد"
"مانشيت" لمدير تحرير إحدى الصحف أملاه عبر الهاتف لينشر خبر إلتهام النيران لقرية الحلوانية -المصرية- وتحولها الى أطلال.
نقلتني المشاهد المؤلمة للنيران وهي تلتهم تلك المساحات الذهبية الشاسعة لمزارع القمح في كركوك وديالى والنجف وصلاح الدين والسماوة والموصل.. لمشاهد مشابهة من ذلك المسلسل المصري الرائع الذي جسد كثيراً من الواقع الذي يعيشه كثيرٌ من المستضعفين، فحرصت على مراجعة بعض مايتعلق بالحريق من إحداث، وإلتفت الى إن المسلسل وبعبقرية الكاتب وحذاقة المخرج وبراعة الممثل قد تنبأ بكل الحرائق التي قد تحدث في البلدان بفعل الفاعلين، لأنها تستند الى أصل واحد.
لم أتخيل -بعقلية الطفولة في العرض الأول للمسلسل في الثمانينات- إننا كنا نعيش أحداث ذلك المسلسل، وأن له أجزاء أخرى لا ندري متى ستكون حلقتها الأخيرة.
للوقوف على أسباب حرائق العراق ومن يقف خلفها وما الدوافع لذلك -دون عناء تحقيق الأدلة- لنتابع بعض أحداث المسلسل.
لن أقارن بين أحداثه وبين ما يجري في العراق، لن أتطرق لحرائق محاصيل الحنطة وغيرها، سأكتفي فقط بعرض بعض أحداث حريق عصفور النار، ولك المقارنة:
"صقر الحلواني": محمود مرسي "العمدة" قتل أخيه ليستولي على الحكم، (حكم قرية)!
نظريته في الحكم: "وحدة الأرض وعدم جواز بيعها أو تقسيمها لأن الأرض هي العرض".
نظرية عالية المضامين، عنوانها براق، من ذا الذي يجرؤ على عدم الأيمان بها، لم يفرّط "صقر" بأي شبر منها، إستولى على جميع أراضي الفلاحين، كان يلبي إحتياجاتهم المتواضعة ويخصم ذلك من إيراد أراضيهم، بحسابات مقيدة بسجلات خاصة.
سن قانوناً -إستوحاه من سيرة الآباء والأجداد- لايسمح ببيع الأرض، والمخالف تصادر منه أرضه ويرحل عن "البلد".
من له حاجة لابد إن يأتي "العمدة" لاشيء إلا بإذنه، لم يكونوا يملكون أرضهم، توكيلاتهم العامة "للعمدة" في خزنته، نظام توارثه الأبناء عن الآباء عن الأجداد.
في إحدى خطبه الحماسية الرنانة كان يعترض على الدراسة في المدينة والحصول على الشهادات الدراسية، كان يقول إن الأرض تحتاج الى الفلاح ولابد للجميع أن يكونوا فلاحين فلا شهادات بعد اليوم.
المستشار: شيخ البلد "الدمرداش" الثعلب الذي لاتعييه الحيل ولايبخل بالمشورة بما يحفظ نظام الحكم، وقبله المصلحة الخاصة.
مدير الأمن والدفاع: شيخ الغفر "السنباطي" لايدخر جهداً بتنفيذ كل مايؤمر به وزيادة، له عيون في كل مكان، لابد أن يعرف حتى ما تدخره النملة من قوتها في ثقب الأرض، ساعده الأيمن "عزب" جلاد السلطة، وساعد آخر مختص بتصفية الخصوم "أبو الوفا" ورصاصات غدره لا تخطيء أعداءها أبدا.
جميع هؤلاء إستأثروا بالسلطة وكل حسب موقعه من الهرم.
جمعوا الأموال وإمتلكوا الأراضي والعقارات وكان لكل منهم حاشية، تقاسموا الأدوار والموارد وأترفوا وأتبعوا الشهوات، وعاثوا في الأرض الفساد وتسلطوا على رقاب العباد.
- زبانية السلطة: الغفر، مشردين لقطاء مرتزقة، وهم القوة الضاربة لنظام الحكم.
"حسيني" إبن الأخ المقتول ظلماً يظهر فجأة، لم يعترف به العم أولاً وإضطر الى ذلك -إذ لاسبيل للإنكار- أخيراً
أخته "حورية" تطالب بالحق من ميراث أبيها "صادق الحلواني" "العمدة" السابق وتلمّح الى "العمودية" المغتصبة وإن وارثها الشرعي هو أخيها "حسيني".
مواجهة..
مساومات..
قمع والاستبداد..
مواجهة أخرى بأدلة الأدانة..
حبسٌ "للحسيني" ومساومات جديدة لتسليم الأدلة..
"حورية" تخلص أخيها من الحبس بحيلة إشعال النار لصرف "الغفر" عن الحراسة.
هرب "حسيني" فكانت الطامة، فهو الخطر الذي يهدد كيان الحكم ويقض أركانه، ما الدليل الذي كان بحوزته؟
رياح "الخماسين" تلك الليلة كانت عاتية، ربما قدحت منها فكرة في رأس "العمدة"، أمر "طابوره الخامس" بإشاعة أن "حورية" تهدد بإضرام النار في القرية..
أوقدوا النار في كل مكان كأنهم أشباح، "السنباطي" و "عزب" ينظرون الى إضطرام النار في القرية فرحين، "العمدة" يقف على "التل" متكتفاً غير مكترث، منتظراً أخبار القبض على "حسيني".
لم يتم إبلاغ "المديرية" إلا بعد أن تحولت القرية الى رماد.
أحداث..
إتهام ل "حورية" و "حسيني" بإشعال النار في القرية..
أحداث أخرى..
"حسيني" يظهر ويلتف حوله أهالي القرية فيدخلون "دوار العمدة"
"ميلم" الشحاذ المدعي للجنون يروي قصة أباه المقتول غدراً:
جاء الى القرية غريب إسمه "سيد الفرنواني" بنى دكاناً وعمر داراً وإشترى أرضاً مساحتها خمسون "فدان"، البائع كان مجهولاً، عقد البيع كان مع "العمدة" المقتول، إحتفظ وأوصى به الى إبنه لأنه كان يعلم أنه مقتول لامحالة، وصل العقد الى "حسيني"، كان العقد هو مايبحث عنه "صقر العمدة"، كان هو دليل الإدانة.
كان البائع هو صاحب قانون وحدة الأرض، "صقر الحلواني" نفسه، كان الخائن هو زعيم البلد!
"ميلم" الذي إدعى الجنون وإمتهن الشحاذة هو إبن "السيد الفرنواني".
"حورية" لعمها "العمدة": أنت من وضعت قانون: الرحيل عن "البلد" لمن أراد بيع أرضه، ويجب تطبيق قانونك عليك.. أرحل عن "البلد".
رصاصة مجهولة تصيب "العمدة"، قد يكون للمخرج فيها دلالات قد يكون منها إن من وراء "العمدة" جهة أعلى مجهولة.
إنتهى حريق عصفور النار وسقط نظام "العمدة" وتفرق زبانيته في الآفاق ولكن كانت لهم أدوار أخرى أكثر فاعلية في الجزء الثاني الذي يتم تمثيله الآن في العراق ولكن ب "سيناريو" آخر لمخرج آخر يمثل الجهة المجهولة.
________
* الخماسين: رياح جنوبية شرقية فصلية جافة وحارة تأتي من الصحراء الكبرى محملة بآلاف الاطنان من الرمال تصل إلى مصر وبلاد الشام ومنطقة شبه الجزيرة العربية.