بقلم:فيصل جلول
مازالت الصورة التي تناقلتها وسائل الإعلام الدولية لذلك الناشِط في أربيل وهو يسجد على العلمين الصهيوني والكردي ماثلة في الأذهان. كان ذلك يؤذِن بانتصار حاسِم عشية الاستفتاء على استقلال الاقليم عن العراق. كانت الصورة ترمز لهوية الدولة "المقبلة" والتي إريد لها أن تقوم في مناسبة رمزية أيضاً، بعد مرور قرن على تقسيم المشرق العربي وفق اتفاقية سايكس بيكو.
كانت الفرحة عارمة في "أربيل" وفي "تل أبيب" على حدٍ سواء بل يمكن القول أن الطرفين ما كان يخامرهما الشكّ في ولادة الدولة، خصوصاً بعد ردّ الفعل الأميركي الباهِت" لا ندعم الاستفتاء لأنه يُشتّت جهود الجميع في محاربة داعش" وهذا يعني أن واشنطن تعارضه تكتيكياً. سيصبح الموقف الرافض أكثر وضوحاً وجدّية بعد صدور ردود فعل حازِمة ضدّ هذا المشروع بخاصة من قوى اقليمية شأن تركيا وإيران. سنلاحظ أيضاً أن الموقف الفرنسي بعد الاستفتاء اتّخذ منحى "التحاور بين الأطراف المعنية" وهذا ينطوي على نيّة مُبيّتة لتمرير الاستفتاء تحت ستار التحاور. ولم يكن الموقف الأوروبي حازماً في الرفض وإنما على هيئة الموقف الأميركي البارد وسيتغيّر الموقفان من بعد باتجاه الرفض الحازِم.
يفيد ما سبق أن "إعلان الدولة الكردية" كان يحظى بتأييد ضمني من واشنطن والأوروبيين، وأن هذا التأييد كان يمكن أن يصبح علنياً وقوياً إذا ما تبيّن أن ردود الفعل العراقية والعربية والاقليمية والدولية باردة أو مضطربة، وقد جاء حازِماً في الرفض وفي وجوب الحفاظ على سلامة العراق ووحدة أراضيه بالقوّة إن لم يكن بالتراضي.إن فشل إعلان "الدولة الكردية"ينطوي على دروس في غاية الأهمية، ستكون من الآن فصاعداً موضع تفكيك وإعادة تركيب من مُعلّقين ومُحلّلين مُهتّمين بشؤون المنطقة.
أول هذه الدروس أن مركز القرار في شؤون الشرق الأوسط ما عاد مجالاً مطلقاً للدول الكبرى الأعضاء في مجلس الأمن، وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية، فقد قرّرت تركيا وإيران منع نشوء الدولة الكردية وكان لهما ما أرادتا. وسيكون لهاتين القوّتين قدرة أكبر من الآن فصاعداً على التدخّل في شؤون المنطقة بما يتناسب مع مصالحهما.
ثانيها أن الولايات المتحدة الأميركية تعيش حال فوضى لا توصف في سياستها الخارجية، وهذا ينعكس على مراكز نفوذها في العالم والشرق الأوسط، ومن بينها القضية الكردية التي أولتها الإدارة الأميركية أهمية خاصة بسبب رهان إسرائيل ومصلحتها الاستراتيجية في قيام الدولة الكردية المستقلّة. إلى الفوضى يلاحظ إثر الانتقال الاستراتيجي الأميركي إلى بحر الصين ذلك أن واشنطن قبل هذا الانتقال أشرفت مباشرة على انفصال جنوب السودان عن شماله خدمة لإسرائيل، ويبدو أنها لم تصغِ جيّداً إلى نصائح الدولة العبرية بتبنّي انفصال الشمال الكردي عن دولة العراق.
ولربما علينا من الآن فصاعداً أن نختبر حجم الانتقال الاستراتيجي الأميركي من الشرق الأوسط إلى بحر الصين من خلال قضايا أخرى. ونختار في هذا الصدد مثالين الأول يتّصل بالدولة الكردية المستقلة وقد رأينا بأمّ العين تنصّل واشنطن من هذا المشروع، والمثال الثاني يتّصل بحرب اليمن وهنا اختلف الموقف تماماً، فقد أرسلت الإدارة الأميركية حاملة الطائرات روزفلت لردع أي تدخّل إيراني في مساعدة أنصار الله في بداية الحرب وهي شريك أساسي فيها، عِلماً أن إسم حاملة الطائرات المذكورة يرمز إلى الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفلت الذي وقّع ما يمكن تسميته باتفاق روزفلت عبد العزيز لتشكيل الدولة السعودية، لكن هذا المثال لا يكفي للحديث عن انتقائية أميركية في النظر إلى قضايا الشرق الأوسط، فالبعض يرى أن واشنطن تشارك في الحرب على اليمن بسبب باب المندب وهو أساسي في حركتها الانتقالية إلى بحر الصين وفي خطوط مواصلاتها.
وثالثها أن الأمم المتحدة اتّخذت موقفاً حازماً من الاستقلال الكردي مُعتبرة أن الاستفتاء غير شرعي لأنه يهدّد وحدة الأراضي العراقية، وهي بذلك تدافع عن القاعدة التي أرستها اتفاقية وستفاليا عام 1639 في أوروبا ومن بعد في العالم وتنصّ على سيادة الدول وعلى عدم التدخّل في شؤونها الداخلية.
ورابعها أن ايران استطاعت للمرة الثانية أن تتدخّل للحؤول دون تغيير اقليمي أساسي لمصلحة إسرائيل في هذه المنطقة. المرة الأولى كانت في مجابهة التدخّل الدولي في سوريا، والثانية في استدراك نشوء دولة كردية تكون بمثابة قاعدة صهيونية للتصويب على الجمهورية الإسلامية وتهديد وحدة أراضيها ومجتمعها، فضلاً عن إلحاق الضَرَر بمحور المقاومة الذي سيكون عليه مُجابهة طرف جديد يريد أن يبرهن عن جدارته عبر التصدّي لأعضاء هذا المحور. تبقى إشارة إلى قوّة العلاقات الإيرانية مع الاتحاد الوطني الكردستاني الذي لعب دوراً مهماً في إفشال مشروع الدولة الكردية المستقلة، وبالأخصّ في السماح للجيش العراقي بدخول كركوك واستعادة الآبار النفطية التي تشكّل ثلث الطاقة في هذا البلد من دون إهراق نقطة دم واحدة.
وخامسها أن اسرائيل التي تمكّنت من الضغط في ظروف مختلفة من أجل شقّ جنوب السودان عن شماله، وبالتالي تعطيل أيّ دور لوادي النيل في حرب إسرائيلية مقبلة على العرب، فشلت في حماية المبادرة الكردية، عِلماً أن دولة كردية مستقلّة ستتيح كسْر عزلة الدولة العبرية في محيطها، ناهيك عن تحوّلها إلى قاعدة إسرائيلية مُحتملة لمحاصرة إيران وللتأثير في مجريات الاقليم برمّته، هذا إلى كون الدولة الكردية "المستقبلية" مصدراً لنفط كركوك إلى إسرائيل بنسبة 75% من حاجتها.
وسادسها أن تماسك العرب المسلمين سنّة وشيعة في العراق وبعض الكرد في السليمانية ومناطق أخرى في مواجهة الانفصال الكردي، يمكن أن يضمن مستقبلاً أفضل للعراق وأكثر تماسكاً، ولعلّ استعادة السيطرة على نفط كركوك تشكّل ضمانة مهمّة لتدعيم وحدة الأراضي العراقية وتثبيت أركان الحكم الانتقالي بعد الاحتلال، مع الإشارة إلى أن الاستقلال الكردي المزعوم كان يستند إلى ثروة كركوك النفطية.
في المُحصّلة يمكن القول أن "استكراد" إسرائيل للعرب قد فشل هذه المرة ويحسن بالمعنيين استخلاص الدروس المفيدة ومنها أن الفشل قد يكون مؤقتاً وليس نهاية المطاف.
أقرأ ايضاً
- السياسي الفاشل !!
- موازنة السنوات الثلاث المقترحة.. حلم اقتصادي فاشل أم فشل أحلام سياسية؟
- محمد توفيق علاوي يؤكد ان العراق دولة فاشلة