- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الغرب.. بعيون عربيّة // قراءة في كتاب
بقلم:مهدي الدهش
الفضول من الصفات التي تحمل في جنباتها عنصرين من التناقض والنفور، فهناك الفضول المذموم الذي يدفع بصاحبه نحو الهلاك وربما الحط من القيمة وتشكيل هالة من الازدراء لصاحبه في عيون المحيطين به، ذلك نتيجة لتدخلاته الغير مُبررة في مسائل قد لا تعنيه، سواء من قريب أو بعيد، وهذا يجري غالبا في حدود معينّة من المحيط الاجتماعي للشخص. وهناك نوع آخر من الفضول، يحترمه الجميع ويثني عليه الناس ويزداد الإطراء عليه بمرور الزمن، كونه قد نحى جانب الفضيلة في سعيه والتوثيق في سيره والتأريخ عبر زمنه، والكشف عن دقائق الأمور وتبيان الغوامض منها بعيدا عن صفة الغرور، لا يقصد المثالب أو تبيان المعايب بقدر ما هو صورة صادقة لواقع تم تشخيصه عن طريق النظر والمشاهدة والتتبع مع الملاحظة، فكان بذلك وثيقة لعصره وشاهد على زمنه ونبراس لمن يأتي من بعده، ليعلم الفرق بين حاضر قد سكنه وماضي قد غاب عنه. كان ذلك هو الترحال في سبيل نيل المعلومة، وتحقيق ما للسماع من خبر ومصداقية النقل له، في زمن غابت عنه وسائل التوثيق التي نشهدها نحن سكان المعمورة اليوم، فوسائل الاتصال والتسجيل والتصوير والتوثيق، أضحت لا تقف عند حدود مكانية أو زمانية هذا من جانب حركتها، ومن جانب آخر تطورها يتسارع بشكل يفوق التصورات والأذهان والمعاني والأزمان، ذلك بحكم التكنولوجيا التي امتلكت ناصيتها بلدان عديدة من شرق الأرض وحتى مغاربها.
فبطبيعة الحال نكون نحن اليوم أكثر سعة في امتلاك التصورات ودقة المعلومات، عن أية منطقة في العالم نبحث عنها وعن أحوالها في ساعتنا هذه. ولكن لو رجعنا إلى الوراء في الزمن قليلا، وتتبعنا زمن ظهور (الكاميرا الفوتوغرافية) الحديثة الملونة وبشكلها الأول، لوجدنا تأريخها لا يتعدى العام (1861م)، وان اول صورة فوتوغرافية حقيقية كانت في العام (1826م). هذا العرض المُقتضب، الهدف منه هو تبيان مقدار صغر مساحة التوثيق الصوري بالمقارنة مع مساحة الحياة التي شغلها البشر على الأرض والتي تمتد إلى زمن متطاول في السعة، سواء في الامتداد المكاني أو العمق الزماني.
من هذا كان يسعى الإنسان لكشف كل ما يحيط به، أو ما يفصله عنه المكان بحكم الطبيعة وتضاريس سطح الأرض. فسعى جاهدا ليسبر أغوار الأمكنة ويتفحصها بنفسه ويدون عنها انطباعاته مشفوعة بالصور الكلاميّة لكل ما يجري ويقع أمام ناظريه ويتناها إلى أسماعه من قصص وأحداث قد يفصلها عنه شيء من الزمن. وكان حاديا لكل هذه الحركة ــ الرحلات والمشاهدات والاستكشافات ــ هو الفضول المحمود، في تتبع ما خفي عن الناس من أسرار الشعوب وعاداتها وأنظمتها ووسائل عيشها وأشكال هيئتها وأحوال مناطقها وطبيعة لسانها وأنظمة حُكمها ومساحات سيطرتها ومجاهل تأريخا.. بل قد وصل الأمر في تتبع ألوان بشرتها وأزياء ملبسها وأشكال مأكولاتها ونظم عبادتها وأحوال معابدها ومكاييلها وموازينها وأسواقها وحاراتها وأمراضها، وكل ما يتصل بحياة بشرها، سواء من قريب أو بعيد.
لم يكن نظام الرحلات والمشاهدة حكرا على العرب، فقد سبقتهم شعوب وأقوام كثيرة في هذا الباب المُشوّق. فقد أثبتت الكثير من التوثيقات السومرية وما تلاها من التوثيقات القادمة إلينا من امبراطوريات حكمة بلاد وادي الرافدين (أكادية، بابلية، آشورية)، عن وجود رحلات وصفية مهمة، امتزجت فيها عناصر الواقع مع الخيال بإطار من الحِكمة الفلسفيّة المُعمّقة. ولو ذكرنا (ملحمّة جلجامش)، الملك الخامس من سلالة ملوك مدينة (أوروك ـ الوركاء حالياً ـ) السومرية في عصر دويلات المدن والمسمى عصر فجر السلالات (2800 ــ 2400 ق.م.)، لكان ذلك يكفي للتدليل على ما ذهبنا إليه. وان كانت رحلات (البطل جلجامش) قد غلب على تفسيرها الجانب الأسطوري، إلّا أنها في رأي البعض ممن حاول تفسيرها بإطار معاصر جدا، قد رأى فيها جانب من الواقعية الأصيلة والفعل الأرضي، كونها قد سجلت جملة من المعلومات الجغرافية المهمة، عن واقع يشغل منطقة الرحلة، والذي شمل القسم الشرقي بالكامل من (الهلال الخصيب)، وذلك ابتداء من منطقة (دلمون ــ مملكة البحرين الآن) وحتى (غابات الأرز ــ جمهورية لبنان الحالية). هذا إلى جانب وصف يحمل من الدقة الشيء الكثير حول طبيعة المناطق التي مثلت سير الرحلة بالكامل. وللتدقيق حول هذا الأمر، يمكن مراجعة كتاب (طه باقر ــ ملحمة جلجامش/ 1980م) وكذلك كتاب المؤلف نفسه (مقدمة في أدب العراق القديم/ الوراق 2010م) وكتاب (د. صلاح الجبوري ــ أدب الحكمة في وادي الرافدين/ بغداد 2000م) وغيرها من المراجع المتخصصة في هذا الجانب، سواء لكتاب عراقيين أو أجانب.
وجاء بعد سكان الرافدين، رحالة ومستكشفون من الإغريق ومن ثم الرومان، حيث أعطوا لهذه السألة حقها من الاهتمام والتقدير. ويعتبر (هيرودوتس) من أشهر الرحالة المعروفين في النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد. وقد جاء من بعده رحالة مهمين منهم (سترابو) و(ديودورس) وغيرهم الكثير. وأستمر الأمر حتى ضعف نجم الدولة الرومانية والساسانية بشكل عام، فبزغ نجم العرب مع بدايات القرن الثاني والثالث الميلاديين. فظهرت لديهم جملة من المدن المتناثرة على مساحة الامتداد العربي، انطلاقا من جنوب الجزيرة العربية في منطقة (بلاد العرب السعيدة ــ جمهورية اليمن الآن) صعودا إلى شمال الجزيرة ومرورا بالساحل الغربي لخليج عُمان والخليج العربي، وحتى العراق وبلاد الشام، حيث ظهرت مدن مهمة (كالحيرة) لملوك المناذرة في العراق، ودولة الغساسنة في بلاد الشام. هذا إلى جانب من المدن التي كان ظهورها في الفترة الزمنية الواقعة ما بين القرن الثالث قبل الميلاد والقرن الثاني بعد الميلاد منها (الحضر ــ في شمال العراق) و(تدمر ــ وسط سوريا) و(البتراء ــ في المملكة الأردنيّة الهاشميّة) و(الأنباط ــ في العراق)، وغيرها من المدن التي لا يُعلم بوجودها حتى اليوم، وذلك لأسباب ضعف التنقيب الآثاري أو غياب ذكرها لدى الرحالة والمؤرخين وأسباب أخرى. حيث ظهر في تلك المَدائن جملة من المُستكشفين والرحالة، التي تناثرت أخبار بعضهم على صفحات كُتُب التأريخ العربي العام أبان الحقبة الإسلاميّة، وربما ضاع خبر بعضهم الآخر، نتيجة الإهمال أو التقادم.
وعند مجيء الإسلام، وانطلاق العرب مرة أخرى في قيادة المرحلة الحضارية الجديدة. برز ومنذ البدئ، كُتّاب اهتموا بأعمال المسح الجغرافي وتكوين الخرائط وتعيين المواقع التي تُحيط بالمنطقة الإسلامية الواسعة. حيث ظهرت جملة مهمة وذات أثر بارز في هذا الحقل، كان منهم على سبيل المثال لا الحصر (بن خُرَّداذْبه، الاصطخري، وهب بن واضح اليعقوبي، بن رُسْتَه، أحمد بن فضلان، أبو دلف الخزرجي الينبوعي، أبو زيد البلخي، ابن الحائك، بن أبي بكر البناء البشاري المقدسي) وغيرهم. فهذه جملة ممن وصلت كتاباتهم لليوم، وهذا بالطبع لا يمنحنا القطعية في الحديث عن غياب غيرهم في الحقل هذا، ولكن ولظروف مختلفة قد يكون هناك أسماء قد سبقتهم في الزمان والمكان، كما وان هناك مَن جاء مِن بعدهم وأكمل طريق البحث والمتابعة والاستكشاف.
واليوم يخرج علينا الأستاذ عباس التميمي، بكتاب جديد يتناول هذا الباب الفريد، وقد أسماه (مشاهدات الرحالة والجغرافيين العرب والمسلمين في أوروبا وبلاد الترك)، بطبعته الأولى عن دار تموز في دمشق/ 2017م، وبلغ عدد صفحاته (322) صفحة من القطع الكبير، مع الفهارس وجملة من الخرائط والصور القديمة. لقد جاء الكتاب بمقدمة، أوضح من خلالها المؤلف السبب الذي دفع به لتناول هذا الموضوع والغايات والأهداف التي وقفت وراء تناول هكذا موضوعة، وبالخصوص في الوقت هذا. حيث أشار إلى جملة من الدواعي كان من أبرزها، تبيان طبيعة الحياة التي عاشتها تلك البلدان الأوروبية في الماضي، وهي اليوم تتبجح بالتطور والتقدم العلمي الذي تحيا به اليوم. وكيف ان عليها ان لا تتهم الشعوب الأخرى بالقساوة والجلافة، وهي كانت جزء من تلك الصفات يوما ما. وكذلك سعى المؤلف لاستعراض حالة التمدّن التي عاشها العرب بفضل تمسكهم بالدين الإسلامي الحنيف، وعبر أخلاقياته الإنسانية. وأشار إلى أن جملة الرحالة كانوا بمثابة دعاة لنقل الفكر والتعاليم التي أنتجها التلاقح ما بين العروبة والإسلام، في زمن سادة فيه العصبية وتأزّم الأخلاقيات الإنسانية. وبين كذلك ان هناك بعض الأخبار التي نقلها بعض الرحالة والجغرافيين لا يكان ان يتقبلها العقل البشري في اليوم هذا، ولكن يجب البحث والتدقيق لتبيان صحتها أو على الأقل تفسيرها. وهذا ما أتفق به كثيرا مع المؤلف وأذهب لما ذهب إليه. ومن المؤكد ان تلك الرحلات كانت ملغومة بالمخاطر والصعاب، فلا يُعقل خلوها من العراقيل والمحن. منها طبيعة المناخ لتلك الأمكنة والجهل المدقع الذي غلف عقلية الإنسان الأوروبي ذلك الحين، والذي قد يدفعه لقتل الغرباء أو سلبهم ما يحملون. وقد يكون هناك من دفع حياته ثمنا، لقاء الحصول على معلومة، من اولئك الرحالة والمُستكشفين، وعليه ان ننحني لهم تقديرا لخدماتهم التوثيقية في بعض جوانبها.
وانطلق المؤلف بعد ذلك صوب التمهيد، للتعريف بالقارة الأوروبية من حيث التسمية والموقع والحدود وأمرا آخر هو نشر الإسلام فيها. وبعد ذلك أخذ المؤلف بتقسم كتابه إلى سبعة عشر مبحثا، امتزجت فيها المتعة وسلاسة الطرح وسعة التناول للمادة وغزارة الخبرة العلمية في التحليل والاستقصاء مع توفير جملة واسعة من الشروح والتعريفات، عبر قاموس المدن وتعريفاتها التي بلغت (106) تعريفا لمنطقة ومدينة ومعلم طبيعي. هذا إلى جانب جملة الخرائط التي بلغت (12) خريطة عربية قديمة، رسمتها أيدي بعض الجغرافيين العرب. ومن مطالعة قائمة المصادر والمراجع التي اعتمدها المؤلف، نرى مقدار الجهد المبذول للخروج بهذه الدراسة الموسعة والمُعمّقة في بابها الفريد تقريبا.
لقد تناول المتن وعبر مباحثه العديدة، تفاصيل على درجة عالية من الأهمية والقيمة التاريخية والتفصيلات الجغرافية، التي نحن اليوم بحاجة ماسة للتعرف عليها وفهمها بصورتها التي حررها لنا قلم وقرطاس الرحالة العرب وجغرافيين تلك العصور. حيث انتهج المؤلف مسارا واضحا، في التعريف بكل مدينة أو دولة أو اقليم، من حيث التأسيس والبناء وأصل التسمية والمساحة ان توفرت، مع ذكر أسباب ايجاد المدينة واختيار موقعها، ولم يغفل المؤلف من التعريج على ذكر ديانات تلك الشعوب وأحوال معيشتها وكذلك لغاتها وانحداراتها العائلية. وقد حاول المؤلف ان يلتقط كل شاردة وواردة يبثها المؤلفون في كتاباتهم. ومنها الحديث عن أسواق بعض المدن والصناعات التي كانت فيها وأعمال التجارة أيضا وذلك بالنسبة للمدن الساحلية. وكذلك طرق تتويج الملوك في بعض البلدان، ومراسيم دفن الموتى والملوك، وغيرها من العادات الخاصة التي اتصفت بها أقوام دون غيرها. وسعى المؤلف للحديث بين الحين والآخر عن الثروات الاقتصادية التي كانت تعتمد عليها بعض المدن والأقاليم في معيشة شعوبها، وهو أمر أساس في سبيل بقائهم متواجدين في مكانهم بشكل دائم. وأورد المؤلف إشارات الرحالة التي جاءت حول العمائر والأبنية التي مروا عليها كالجوامع في قرطبة أو الكنائس وأسوار بعض المدن ومعابدها وحصونها والقلاع التي تم تشييدها على أطراف بعض الجبال. وتحدّث المؤلف عن طبيعة أرض بعض المناطق وخصوبتها، كما أوردها المؤلفون أنفسهم. وكان هناك دائما، حديث عن أزياء الأقوام وسلوكياتهم مع الضيوف وطرق تشييد مساكنهم وكذلك نظرتهم على سبيل المثال للمرأة في حياتهم الاجتماعية.
هذا وقد جاء كتاب (مشاهدات الرحالة والجغرافيين....) للدكتور التميمي، ليردم فجوة في المكتبة العربية والتي تكاد تتسع؛ أي التضخّم الكبير في عدد المؤلفات والكتب المترجمة من اللغات الأوروبية للغة العربية، وهي تلك النتاجات الخاصة بالرحلات والاستكشافات التي قام بها رحالة أوروبيين للبلاد الشرق الأوسط الكبير، منذ أوائل عصر النهضة الأوروبية مع تباشير القرن السادس عشر للميلاد، وحتى منتصف الخمسينيات من القرن العشرين. وبالتالي أوضح الكتاب ركنا من الأركان المُعتمة في عالم المعرفة المُعاكس، أي تلك العيون والأقلام التي تابعت ما وراء أسيجة العُتمة التي كانت تَلُف أسوار أوروبا في العصور الوسطى.
أقرأ ايضاً
- الأهمية العسكرية للبحر الاحمر.. قراءة في البعد الجيوستراتيجي
- الغدير.. بين رأي السياسي وقراءة المخالف
- قراءةٌ في مقال السفيرة الأميركيَّة