بقلم: مهدي نعمة علي الجنابي
أولا : مفهوم الأسطورة عند القدامى والمحدثين :
الاسطورة لغة : هي أُحدوَثة وأَحاديث وسطر يسطُر إِذا كتب، كما جاء في تعريف الاساطير على انها : الأَباطيلُ والأَساطير أَحاديثُ لا نظام لها واحدتها إِسطار وإِسطارة بالكسر، ويرى الباحثون ان التفكير الأسطوري ما هو الا تصور غير علمي خلافاً لما يعتقده علماء الميثولوجيا الذين اعطوا للأسطورة دورا مهما في تفسير حركة التاريخ كونه تفكير غير قادر على الاستقصاء والتجربة أو الترابط بين سلسلة العلل والمعلولات، بل هو تفكير ذو طبيعة تدخل فيها الخوارق ويؤمن بالتأثير المتبادل بين الظواهر عن طريق التشاكل والتشابه والتداعي، ولا سيما عندما أَولَ الانسان قضية الخلق، ومسألة الصراع بين الخير والشر، والعلاقة بين قوى الطبيعة العليا وأثرهما في الانسان، وطالما أن الانسان بطبعه يخشى ما يجهله أو ما لا يستطيع اخضاعه لسلطانه فيظل أسيراً للطبيعة من تضاريس ومناخ وما يصاحب ذلك من عوارض مما ينشئ بينه وبينها علاقة وجدانية، فنجده يتذلل لمظاهرها احيانا ويتضرع إليها ويخشى غضبها، وهذه العلاقة لا يمكن أن تفسر على اساس كونها اسقاطا ورغبة في اتحاد الانسان بالطبيعة واندماجه فيها.
ثانيا : الروايات التاريخية عند المؤرخين العرب والمسلمين التي تحمل طابع اسطوري :
ان منهج الكتابة عند الرحالة يختلف عن اسلوب الصناعة التاريخية عند المؤرخ اذ لا يتقيد الرحالة بطريقة المؤرخين في عرض الحوادث ولا يعتمد الاسلوب الزمني على غرار الحوليات، ولا يجد البعض منهم نفسه ملزما بالتدقيق بسلاسل اسناد رواياته سوى اعتقاده ان ما سمعه يكفي احيانا كي يدون في رحلته، وهذا الامر لا ينطبق على كل الرحلات فمنذ نهاية القرن الثالث للهجرة وبدايات القرن الرابع بدأت رحلات تجارية احيانا واستكشافية احيانا اخرى، ولا سيما تلك التي توجهت الى اقصى الشرق في بلاد الهند والصين، او تلك المتوجهة شمالا الى بلاد البلغار، اوالى جزر البحر المتوسط، ومنها وهو النادر ما كان متوجها الى واوروبا شمالا، قام بها على الاغلب رحالة اندلسيون ومغاربة بحكم الاحتكاك الجغرافي معها، وإذا ما كان العديد من التجار العرب المسلمين لم يحاولوا تدوين سفراتهم التجارية ومشاهداتهم لتلك البلاد ،اما بحكم تأكيدهم على الوازع المالي والتكسب الذي كان سببا في رحلاتهم، اذ جاء الحديث عن رحلاتهم في سياقات مختلفة، اما وردت بصيغة رسائل دونوها، او نقلت شفاها جيلا عن جيل لتدون لدى المتأخرين منهم، أو جاءت في اثناء كتب المسالك والممالك، كتلك التي وردت في كتابات ابن خرداذبة وابن حوقل الجغرافية وغيرهما للوقوف على طبيعة صياغة تصورات الكتاب من الرحالة لطبيعة الحياة في البلاد التي ذكرت في مدوناتهم، إذ يروي ابن خرداذبة (ت٢٨٠هـ/ ٨٩٣ م)، في كتابه المسالك والممالك حكايات عجيبة عن مخلوقات غريبة لم نسمع عنها الا في الاساطير، ومنها ما ساقه من خبر عن وجود افاع في جبال تدعى جبال الزابج، يصعب وصف حجمها وشدة قوتها وهي كما يصفها حيات عظام تستطيع بلع الرجل والجاموس، ومنها ما يبتلع الفيل كما يروي، كما يصف شجرة كافور كبيرة كانت في تلك الجبال ذاتها وهي عظيمة جدا وانها تستطيع ان تظلّ مائة إنسان وأكثر، كما يصف الكافور في هذه الشجرة الذي ينقب عليه من أعلى الشجرة فيسيل منها من ماء الكافور عدة جرار، ثم ينقر أسفل من ذلك وسط الشجرة فينساب منها قطع الكافور وهو صمغ ذلك الشجر، وفي هذه الجزيرة عجائب كثيرة لا تحصى.
ولا نجده يحاول التدقيق في صحة تلك الروايات من ضعفها سوى اعتماده على ما يتناقله الناس من حديث سمر او ما سمعه عند مكوثه هنا اوهناك، وفي سياق حديثه عن عجائب الدنيا ،يذكر انها اربع عجائب، احداها في الاسكندرية بمصر، والاخرى في ارض عاد، والثالثة في الاندلس، والرابعة في ارض بيزنطة بقوله : عجائب الدنيا أربع، ممرات كانت معلقة بمنارة الإسكندرية كان يجلس الرجل تحتها فيرى من بالقسطنطينية وبينهما عرض البحر. وفرس من نحاس كان بأرض الأندلس قائلاً بكفيه كذا باسطاً يده أي ليس خلفي مسلك فلا يطأ تلك الأرض أحد إلا ابتلعته النمل، ومنارة من نحاس عليها راكب من نحاس بأرض عاد فإذا كانت الأشهر الحرم هطل منها الماء فشرب الناس وسقوا وصبوا في الحياض فإذا انقضت الأشهر الحرم انقطع ذلك الماء. وشجرة من نحاس عليها سودانية من نحاس بأرض رومية، فإذا كان أوان الزيتون صفرت السودانية التي من نحاس فتجيء كل سودانية من الطيارات بثلاث زيتونات زيتونتين برجليها وزيتونة بمنقارها حتى تلقيها على تلك السودانية. النحاس فيعصر أهل رومية ما يكفيهم لآدامهم وسرجهم سنتهم إلى قابل.
وفضلا عن اعتماد المؤلف على رحالة مجهول الاسم، واسمه سلام الترجمان والذي يصفه ابن خرداذبه على انه كان يجيد ثلاثين لسانا، اذ ينقل عنه رحلته والتي بدأت عام (٢٢٧هـ/٨٤٢م) في اولى تلك الرحلات إلى بلاد الصين، حين خرج بأمر الخليفة الواثق بالله (ت٢٣٢هـ/ ٨٤٧م)، اثر منام رآه الخليفة والذي مفاده أن السد الذي بناه الاسكندر (ذو القرنين) ليحول دون تسرب يأجوج ومأجوج إلى ديار المسلمين مفتوحاً، فرأى الخليفة أن يرسل في أمره ويتأكد من ذلك خشية ان تتحقق رؤياه، وقد ندب لهذه المهمة سلاما ومعه خمسون رجلا ومالا كثيرا يعينه في سفره مع من خرج معه، وقد وصل سلام هذا بعد رحلة طويلة إلى الصين ليروي مشاهدته السد الذي بناه ذو القرنين، فيذكر من خلال رحلته عددا من الأماكن التي شاهدها في طريقه حتى وصوله السد، ثم يتحدث عن السد فيصف بابه، والحراس الذين يحفظونه. ثم يورد سلام الترجمان قصة حول سؤال أهل تلك البلاد هل رأوا يأجوج ومأجوج، اذ قال: ان اهل المكان الذي فيه السد شاهدوا عددا منهم، وان طول الواحد منهم شبرا ونصف الشبر.
ثالثا : الرحلات والجمع ما بين الحقيقة والأسطورة :
وثمة رحلات اخرى كانت اكثر توخيا للحقيقة نسبيا مما سبق اذ تباين منهجها في تدوين رحلاتها في مدى اعتمادها معلومات دقيقة وعلمية من جهة وقبولها في الوقت ذاته ما هو اسطوري او خيالي من جهة ثانية على الرغم من تأكيدها في مقدمات كتبها تحريها الحقيقة من مصادرها الاصلية، إذ ان اعمال الخيال بدا واضحا عند عدد منهم مع وجود ثوابت وحقائق تداخلت معها لتجمع بين ما هو غث وسمين، كما هو الحال مع رحالة كابن فضلان والمقدسي، ومسعر بن المهلهل ففي رحلة ابن فضلان إلى ملك الصقالبة عام (٣٠٩هـ/٩٢1م) والتي جاءت بتكليف من الخليفة العباسي المقتدر بالله (ت ٣٢0هـ/٩٣٢م)، بعد ان ارسل ملك الصقالبة للخليفة كتابا يطلب منه ان يرسل له من يفقهه بالإسلام وهو حديث عهد به ويسانده ضد اعدائه، فاختير احمد بن فضلان على راس الوفد الذي ضم الفقهاء والعلماء والمعلمين لهذه المهمة، وكان ابن فضلان في أول امره من موالي محمد بن سليمان الحنفي والي مصر، ثم أصبح من موالي الخليفة المقتدر العباسي ولا نعلم عن اسماء شيوخه او تلاميذه. ولم يعلم لما انتدب دون سواه لهذه المهمة علما ان اسمه لم يذكر لا في كتب الطبقات ولا التراجم الخاصة بالفقهاء او الحفاظ، في وقت لم يعرف عنه انه يجيد لغات ذلك المكان الذي قصده وقد عبر عن ذلك في حديثه عن وجود مترجم للملك ينقل ما يقوله ابن فضلان، وفي اكثر من مناسبة نجد استدراكات وتعجب ابن فضلان مما شاهده، من خلال سؤاله للترجمان الخاص بالملك، لقد اتسمت روايات ابن فضلان وهو يصف مشاهداته للحياة الاجتماعية للمدن والقرى التي مر بها وهو في بلاد المسلمين من وصف منطقي، الا انه ما ان خرج من بلاد المسلمين ونفذ الى بلاد غريبة وبعيدة حتى نجده يطلق العنان لخياله الخصب ويسهب في وصف الظواهر ومنها المناخية على وفق تصورات جاءت متناغمة مع ما رواه شعوب تلك المناطق ولاسيما الصقالبة الذين نقلوا تصوراتهم لتلك الظواهر اليه وهو مستغربا تارة ومصدقا تارة ثانية، ومنها ما نقله وشاهده من احمرار للسماء عند اول نزوله في بلاد البلغار ودهشته الشديدة لما راه من مناظر مخيفة رسمها خياله، ثم يصف دهشته عند سماعه لأصوات تخيل انه سمعها من السحاب، فإذا هو غيم أحمر يرى فيه أمثال الناس والدواب قد شكلت وهم يقتتلون في كل مساء كما روى له ملك الصقالبة نقلا عن حكايات اجداده، وليست تلك القصص الا تخيلات وأوهام تراءت له فحسبها حقيقة، بل كانت ظواهر طبيعية تتعلق بطبيعة المناخ هناك وتداخل الغيوم ببعضها والتي لم يسبق له ان شاهدها بتلك الكثافة في بلاده، الا انه فسرها تفسيراً خرافياً تحدث فيها عن اشكال وصور تراءت له في هيئات مختلفة نقلها من أساطير قديمة يعتقد بها أهل تلك البلاد، ومن الغريب أن ابن فضلان خرج إلى بلاد البلغار بإيفاد من الخلافة ومعه وفد من الفقهاء والمعلمين والذي لم نجد ذكرا لرأيهم لهذه الظاهرة وكأنه صدقها وحده او اعتقد بها.
وقد يندهش المرء وهو يقرأ رحلته والمهمة التي كلف بها وهي دعوة امم تلك البلاد الى الاسلام ليحررها من معتقداتها الخاطئة فاذا به يؤمن بخرافاتهم وما ينقل عن اساطيرهم وكانه نسي ما جاء من اجله، كما يروي قصصا اخرى في امكنة اخرى قصدها وهو في طريقه، والتي تتلاحم فيها عناصر الخيال والاسطورة معا بعد ان سمع تلك الحكايات من كبار القوم من سكان الاماكن التي مر بها وهي عكست طبيعة معتقداتهم وتصوراتهم نسجتها تخيلات واهواء اناس لم يصلها المسلمون والفاتحون الاوائل. ان عدم جود ذكرا لابن فضلان في كتب الطبقات او التراجم الخاصة بالفقهاء زاد من ترجيح كونه لم يكن فقيها او عالما او داعية، بل كان يمتلك مؤهلات ثقافية عامة للمسلم في موطنه كما بدا من حديثه .
وإذا ما تأملنا في رحلة المقدسي (ت٣٨٠هـ/ ٩٩٠م) الذي خرج تاجراً إلى جزيرة العرب، ثم قصد بلاد فارس ثم العراق والشام مرورا بمصر فالمغرب. وعلى الرغم من اعتماد مروياته في الرحلة من قبل العديد من الرحالة الذين اتو من بعده ،فضلا عن وصفه لمنهجه في تدوين الرحلة وهو يتحرى الدقة في نقل الخبر والتي وردت الاشارة اليها في مقدمة كتابه احسن التقاسيم في معرفة الاقاليم وجدناه اكد تحريه الحقيقة بمختلف الوسائل ومنها قوله : (وما استعنت به على بيانه سؤال ذوي العقول من الناس، ومن لم أعرفهم بالغفلة والالتباس عن الكور والأعمال في الأطراف التي بعدت عنها، ولم يتقدر لي الوصول إليها. فما وقع عليه اتفاقهم أثبته، وما اختلفوا فيه نبذته. وما لم يكن لي بد من الوصول إليه والوقوف عليه قصدته. وما لم يقر في قلبي ولم يقبله عقلي أسندته إلى الذي ذكره أو قلت زعموا وشحنته بفصول وجدتها في خزائن الملوك).
ويوجد في مصنفه اكثر من رواية تناولها وهي لا تتفق في العديد من مفاصلها مع الثوابت التاريخية او العقلية، وعلى الرغم من ذلك لا نجده يعلق او يشكك بها، و منها ما يرويه من روايات خيالية عن حادثة كانت في نواحي جرجان اذ يذكر ان فيها بئرا يرى فيه عجائب ومما جاء فيه: (نواحي جرجان بئر تظهر فيه شجرة كل سنة ثم تغيب وقد احتال بعض السلاطين وشدها بالسلاسل الغليظة ففكتها وكسرتها وغابت). كما نجده وفي اماكن اخرى يصور لنا الظواهر كما يسمعها من المكان الذي يمكث فيه دون تمحيص او رفض لتلك الاخبار، وهكذا نجد ان الرحالة التاجر احيانا يختلف في درجة قبوله لتفسير الظواهر من رفضها، عن الرحالة العالم او طالب العلم او الجغرافي المتخصص، لتبقى مسألة التباين المعرفي لدى الرحالة اساسا في كثير من الاحيان في تحديد طبيعة قبولهم وتحليلهم لكل ما يشاهدونه او ما ينقلونه، ونجد عند الرحالة مسعر بن مهلهل (ت٣٩0هـ/ ١٠٠٠م) شكلا مشابها لهذا النمط من الرحلات من حيث رواية الخبر في عدم تحريه الدقة وفي احيان اخرى يمتزج لديه ما هو تاريخي مع ما هو خيالي، ولو عدنا الى سيرة هذا الرحالة فقد نتعرف على اسباب ضعف الدقة في الرواية التاريخية لديه، اذ عرف انه كان شاعرا وأديباً، وللشعراء احيانا خيال خصب واسلوب مشوق في الطرح، رحل وطاف في بلاد فارس وأذربيجان، الا ان ما وصلنا من رحلاته هو ما نقله ياقوت الحموي، اذ لم نقف على مؤلف باسمه، إذ ينقل عنه هذا الرحالة الكثير من العقائد التي يختلط فيها السحر بالخوارق والتي يرفضها ياقوت بعد ذكرها، ومنها ما روي عنه من قصص وهي كانت بمثابة اساطير سمعها من اهل البلدة التي مر بها ،منها على سبيل المثال ما ورد في خبر جبل يدعى دماوند وما قيل فيه من اعاجيب اذ اورد ياقوت الحموي نقلا عنه قصصا عديدة في هذا الباب، وبدا هذا الرحالة مصدقا لما سمعه عن ظواهر عديدة اخرى لا تقل غرابة عن سابقتها في ذلك المكان. فضلا عما اورده في زيارته لبيت الذهب الموجود في أرض مكران وقندهار، وهذا البيت كما يروي عنه ابن النديم (مرصع بالجواهر والأحجار الثمينة، ولا يصل اليه إلا العباد). وأنه معلق بين الأرض والسماء دون أن يرتكز على عمد. ولديه العديد من هذه الروايات والتي يحاول أن يربط بها بين الرموز والأشكال والتكهنات، وغالباً ما يعتقد بها أو يؤيدها على الرغم من تعارضها مع ثوابت الثقافة التي ينتمي إليها سوى ان يكون القصد منها ذكر الطرائف والغرائب على حساب الحقائق التاريخية.
ومن الامثلة الاخرى على رحلات اختلط الرواية التاريخية الصحيحة بالخيال او الاسطورة ما جاء في رحلة علي بن أبي بكر بن علي الهروي عام (٦١١هـ/ ١٢١٥م)، ذلك الرحالة الذي ولد في الموصل ثم انتقل منها الى حلب حيث نشأ على التصوف ووجب سماع سير الاولياء والصالحين مما شجعه على قصد اماكن مثواهم في رحلة سائحا باحثاً عن الأماكن الدينية والأضرحة والقبور بعد ان انطلق من مدينة حلب متوجها الى بيت المقدس ثم الى مصر وبلاد المغرب ثم توجه منها الى صقلية والقسطنطينية ثم العراق فالحجاز ثم اليمن ثم بلاد فارس، إذ كان الهروي مغرماً بالأسفار، وهو من أولئك الرحالة الذين يطلقون العنان لخيالهم وقبولهم مختلف القصص التي يسمعونها او يتخيلونها دون أن يشككوا في صحتها، وهذا ما بدا واضحا في وصفه لقرية براق، اذ نسج خياله الكثير من الحكايات الخرافية على أنها كرامة روحية متعجبا، والهروي كما وصفه من ترجم له ومنهم الذهبي بقوله فيه على انه كان حاطب ليل دخل في السحر ونفق على الظاهر صاحب حلب، فبنى له مدرسة، فدرس بها وخطب بظاهر حلب، وكان غريبا مشعوذا، حلو المجالسة، فلا عجب ان تكثر مثل تلك الاساطير في رحلته.
وصورة اخرى تظهر فيها الاساطير جلية، برزت من خلال مصنفين اثنين في الجغرافية والرحلات لزكريا بن محمد بن محمود القزويني (ت ٦٨٢هـ/ ١٢٨٣م)، وهو مؤرخ وجغرافي، ولد ونشأ بقزوين، ثم رحل متجها إلى العراق ومنه الى الشام زمن الخليفة العباسي المستعصم بالله. وترجع شهرة القزويني إلى كتابيه عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات والذي قيل فيه أشياء يرفضها طبع الغافل، في وقت اقتصر ذكر عند حاجي خليفة على ان المؤلف يشتمل على ما هو غث وسمين، والكتاب الثاني هو آثار البلاد وأخبار العباد، وفي هذا الكتاب، اهتم المؤلف بأحوال اهل البلاد التي وردت في كتابه اكثر من اهتمامه بالمسالك والطرق، اذ قُسم الأرض إلى سبعة أقاليم واصفا ما يحتويه كل إقليم من بلاد ومدن وجبال وجزر وبحيرات وغيرها تبعا لترتيب حروف المعجم، وقد تأثر القزويني كثيرا بمعجم ياقوت الحموي وحاول ان يكون لكتابه صدى لكتاب معجم البلدان، الا انه لم يكن يمتلك منهجية الحموي في التوثيق لكثرة ما حوى كتابيه من قصص واساطير وخوارق من الاخبار بالغ في البحث عنها وتدوينها دون تمحيص، منها وهو يصف اماكن بعيدة وجزر زارها في الهند والصين، وذكره احوال اهلها التي كادت ان يغلب عليهم الغرائب من الحكايات والعجائب من القصص ،ولاسيما ما ذكره عن جزيرة تقع في بحر الصين، والتي اسماها جزيرة النساء واصفا اياها على انها جزيرة لا يوجد فيها سوى النساء، وان بقاءهم وتكاثر النسل فيهم يتم عن طريق تلقيح الريح او النبات واشار الى ذلك بقوله (في بحر الصين فيها نساء لا رجل معهن أصلاً، وإنهن يلقحن من الريح ويلدن النساء مثلهن)، وقيل : إنهن يلقحن من ثمرة شجرة عندهن يأكلن منها فيلقحن ويلدن نساء)، وما جاء في غرائب الهند فهو كثير، منها ما اورده عن وجود طائرا كبيرا واصفا اياه : (بها طير عظيم الجثة جداً؛ قالوا : إنه في بعض جزائرها إذا مات نصف منقاره يتخذ مركباً يركب الناس فيه في البحر، وعظم ريشه يتخذ آزون الطعام ويسع الواحد منه أحمالاً كثيرة). وله من ذكر الغرائب الاخرى ما لا تحصى، اذ يروي عن وجود اناس لهم ملامح واجساد البشر ووجوه حيوانات، واخبار اخرى عن حيوانات بوجوه انسان.
ومن الغرابة بمكان ان القزويني شغل منصب القضاء في واسط زمن الخليفة المستعصم بالله (ت ٦٥٦هـ/ ١٢٥٨م)، وهنا كان التعامل مع رحالة له من المؤهلات العلمية التي من المفترض ان تجعله لا يقبل مثل تلك الاساطير او تلك العجائب والغرائب من الحكايات، وربما كان لميوله وخياله الواسع جزء من تكوينه الذاتي الذي ظل ملازما له، مما انعكس على ثقافته الخاصة التي سهلت حبه لهذا النوع من الكتابات من خلال البحث عن كل ما هو عجيب او غريب لا يألفه عقل الانسان، وبتصوراته والتي لا تتوافق في كثير من الاحيان مع البيئة الثقافية والمنطق الذي ينتمي اليه، كما ان عدم وجود ترجمة له لا في كتب التراجم او الطبقات ولاسيما المتأخرة ربما كان دليل اخر على عدم الوقوف على سيرته من قبل اصحاب هذه المصنفات، ليقتصر ذكره على كتب الفهارس التي اختصت بذكر المؤلفات واسماء الكتب اكثر من وقوفها على ذكر تفاصيل عن اصحابها.
وجاء هذا النمط من الكتابة واضحا من خلال مؤلفات جمعت في منهجها في الكتابة بين منهج التواريخ العامة من جهة وبين كتب مدونات ذات طبيعة جغرافية ومنهج اصحاب الرحلات، اذ الزم اصحاب هذا النوع من المصنفات وهم يكتبون عن التاريخ ومنذ بداية الخليقة وحتى عصر المؤلف ان يتمموا النقص الحاصل في الفترات التي سبقت عصر التدوين او تلك الفترات الزمنية المتباعدة والتي لا يمتلك اصحاب هذا النوع من المؤلفات نصوصا واضحة وموثقة تتناول الفترة بعد نزول ادم عليه السلام سوى الموروث الشفهي المتناقل او ما عرف بالإسرائيليات التي دونت على لسان عدد من رواتها كوهب بن منبه وكعب الاحبار، وما شاب تلك الروايات من اساطير امتزجت بها الحكاية الشعبية بالموروث القديم بمعتقدات الامم السابقة واخذت دون تمحيص وتدقيق، وتعامل معها عدد كبير من كتب التواريخ العامة ويأتي في مقدمتهم كتاب البدء والتاريخ، المنسوب لمطهر بن طاهر المقدسي (ت بعد ٣٥٥هـ/ 966م)، وعلى الرغم من ما قدمه لنا المسعودي في كتابه مروج الذهب (ت٣٤٦هـ/ ٩٥٧م) وهو ذلك الرحالة والمؤرخ والجغرافي من معلومات تاريخية وجغرافية مهمة فضلا عن ذكره ما اعتمده من مصادر لها من الدقة والصدق الشيء الكثير لأنه رحالة ساح في البلاد منذ شبابه اذ زار الهند والبنجاب وسيلان وبحر الصين ثم عاد الى زنجبار ثم الى عمان ومنها الى بغداد موطنه الذي خرج منه، فضلا عن تأكيده في مقدمة كتابه بقوله : (ما ذكرنا من الاخبار في مبدأ الخليقة هو ما جاءت به الشريعة ونقله الخلف عن السلف والباقي عن الماضي فعبرنا عنهم على حسب ما نقل الينا من الفاظهم ووجدناه في كتبهم).
إلا أن عمله في حقلي الجغرافية والتاريخ معا، حاول سد النقص في تسلسل الاحداث عن طريق اللجوء الى اقتباس قصص قيلت او ذكرت عن اناس عاشوا في تلك البقاع، وغالبا ما تكون غير موثقة محاولة في سد الفراغات التاريخية وهذا امر غير مسوغ، وهكذا نجده لا يدقق كثيرا في صدق بعض الحكايات الشعبية او تلك القصص المقتبسة من رحالة لم يشهد لهم بالتخصص او الصدق فيما ينقلونه في مجال الرحلة او الجغرافية فضلا عن الروايات التاريخية التي نقلت عن الاسرائيليات، وهذا ما بدا واضحا في العديد من الحالات ومنها ما جاء في تناوله لتاريخ الامم الغابرة او اماكن وجودهم، كما ورد في خبر من خرج مع موسى عليه السلام في التيه، اوفي تلك الاخبار التي تتعلق بالإسكندر الكبير، وغيرها من النوادر والملح والغرائب من القصص التي كانت تظهر في اثناء كتابه مروج الذهب، وعلى الرغم مما قيل فيه كونه اخباريا وعلى دراية بالأحداث، الا ان من ترجم له ذكروا انه يروي الغرائب النوادر من الاخبار، وفي ذلك يقول الصفدي وغيره انه كان : صاحب غرائب وملح ونوادر من الاخبار، في الوقت الذي كان ابن خلدون (ت ٨٠٨هـ/ ١٤٠٦م) قد رصد العديد من تلك القصص غير الواقعية التي وردت لدى المسعودي وفندها في مقدمته المشهورة، في وقت شعر ابن خلدون بضرورة وضع معايير وضوابط خاصة للروايات التاريخية الصحيحة والتي يجب ان تؤخذ بنظر الاعتبار في رصد ما هو تاريخي وما هو غير تاريخي وهو يقدم منهجا في كتابة وتوثيق التاريخ.