- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
مواقف خالدة... هذا ما قدمه حبيب للحبيب
حجم النص
حسن الهاشمي كلما تقدم العمر بالإنسان كلما خارت قواه الجسمانية وانتابه شيئا من الخمول في الاعصاب والذاكرة وحتى لطافة تعامله مع الآخر، وهذا أمر طبيعي لا يختلف فيه اثنان، بيد ان هذه المعادلة تختلف اذا كانت الشخوص متألقة والأهداف سامقة فإنها لا تعترف بتداعيات الهرمية والشيخوخة، بل ان الراس وما وعى والقلب وما حوى، بل كل الجوارح والجوانح وما انطوى، تتحول الى كتلة ملتهبة من النشاط والحيوية ويقطر من بين جنباتها العطاء والايثار والتضحية والفداء. لم تعقه الخمس والسبعون عاما من الالتحاق بركب العز والفخار، كيف يمنعه الكبر من العروج الى الكبر، وهو الذي استلهم من الرسول الأعظم العقيدة والصلاح، وخاض غمار الحروب وتمرس في الدفاع عن الحق مع أمير المؤمنين، وأرسى دعائم الشهادة والذود عن القيم والأخلاق مع سيد الشهداء، يا لها من بداية متألقة تألق الجوهر، وخاتمة مخلدة خلود الدهر، لقد رسم بتضحيته العتيدة معاني الحب والايثار في لوحة الحياة الحرة الكريمة، وها نحن ننتشي من نخب ما روى ونلتقم من أديم ما غرس من المن والسلوى، نعم لم يمنعه كبر سنه من الالتحاق بركب الخلد، كان ينتظرها على أشد من الجمر، وظفر بأحسن أنواعها وأكملها، وتألق نجما من نجوم الأصحاب الذين لم ولن يوجد مثيلا لهم في الدنيا من الأولين والآخرين. (من الحسين بن علي إلى الرجل الفقيه حبيب بن مظاهر، أما بعد: يا حبيب فأنت تعلم قرابتنا من رسول الله، وأنت اعرف بنا من غيرك، وأنت ذو شيمة وغيرة فلا تبخل علينا بنفسك، يجازيك جدي رسول الله يوم القيامة) وصلت رسالة الحبيب إلى حبيب وكان جالسا مع زوجته وبين ايديهما طعام يأكلان، إذ غصت زوجته من الطعام فقالت: الله أكبر يا حبيب الساعة يرد كتاب كريم من رجل كريم، فبينما هي في الكلام وإذا بطارق يطرق الباب فخرج إليه حبيب وقال: من الطارق؟ قال: أنا رسول وقاصد الحسين إليك، فقال حبيب: الله أكبر صدقت الحرة بما قالت! ثم ناوله الكتاب ففضه وقرأه، فسألته زوجته عن الخبر فأخبرها فبكت وقالت: بالله عليك يا حبيب لا تقصر عن نصرة ابن بنت رسول الله، فقال: أجل حتى اقتل بين يديه فتصبغ شيبتي من دم نحري، لقد ضربت زوجته أروع الأمثال في شحذ الهمم واثارة الحماس في نفس زوجها الواله أصلا في محبة الحسين عليه السلام، فكانت خير تجسيد لمقولة: وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة. وحين كان الامام الحسين عليه السلام نازلا في طريقه وقد عقد إثنتي عشرة راية وقد قسم راياته بين أصحابه وبقيت راية، فقال بعض أصحابه: مُنَّ علي بحملها فقال الحسين: يأتي إليها صاحبها، فبينما هم يتجاذبون اطراف الحديث فإذا بغبرة ثائرة من طرف الكوفة قد أقبل حبيب معه غلام، فاستقبله الحسين وأصحابه فلما صار حبيب قريبا من الإمام ترجل عن جواده وجعل يقبل الأرض بين يديه وهو يبكي فسلم على الإمام وأصحابه فردوا، فسمعت زينب بنت أمير المؤمنين فقالت: من هذا الرجل الذي قد أقبل؟ فقيل لها: حبيب بن مظاهر فقالت: اقرأوه عني السلام، فلما بلغوه سلامها لطم حبيب على وجهه وحث التراب على رأسه وقال: من أنا ومن أكون حتى تسلم عليَّ بنت أمير المؤمنين. أي عشق وأي ولاء يحمله حبيب لأهل بيت العصمة والطهارة؟! إنه يعتقد بولايتهم المطلقة التي تقربه الى الله تعالى زلفة، وتنجيه من أهوال يوم القيامة، انه يذعن بأن طاعة أهل هذا البيت هي نفسها طاعة الله والدالة الى طريقه المستقيم، ورضاهم هو نفسه رضا الله، والذب عنهم يعني الشمول برحمة الله تعالى ورعايته ورأفته وهدايته، وكل انسان يصل الى هذا المستوى من الايمان يذوب عشقا وولها بالدين وأهل الدين، والتضحية من أجل الامام الحسين عليه السلام الذي هو بحق قران ناطق، هي تضحية في سبيل الدين والعقيدة والأخلاق والمثل، وهل يمكن التفكيك بين الشيء وملازمه، أو بين الشيء والدال إليه، بل بين الشيء ونفسه، وهو عليه السلام عدل القران وترجمانه ومبين أحكامه وموضح محكمه من متشابهه، ناسخه من منسوخه، مطلقه من مقيده، وكيف لا وهو من بيت الوحي والتنزيل والقرب الإلهي. (قالوا: ولما صرع مسلم بن عوسجة مشى إليه الحسين ومعه حبيب فقال حبيب عز علي مصرعك يا مسلم ابشر بالجنة! فقال له مسلم قولا ضعيفا بشّرك الله بالجنة! فقال حبيب: لولا انني اعلم اني في أثرك لاحق بك من ساعتي هذه لأحببت ان توصي الي حتى احفظك في كل بما لنت له من الدين والقرابة. فقال له: أوصيك بهذا رحمك الله ـ واومأ بيديه إلى الحسين ـ ان تموت دونه! فقال حبيب: افعل ورب الكعبة) وها هو يفي بوعده يوم استأذن الامام الحسين بالمنازلة، فانقض عليهم كالليث الغضبان مزمجرا: أنـا حـبـيـب وأبـي مـظـاهـر*** فـارس هـيـجـاء وحـرب تـسـعـر أنـتـم اعـد عــدة وأكــثــر*** ونـحـن أوفـى مـنـكـم واصـبـر ونـحـن اعـلـى حـجـة وأظـهر*** حـقـاً وأتــقــى منـكـم وأعـذر وقاتل قتالا شديدا فحمل عليه رجل من بني تميم فضربه بالسيف على رأسه فقتله، فهد مقتله الحسين عليه السلام، فقال: عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي، وفي رواية قال عليه السلام: لله دَرُّكَ يا حبيب، لقد كنتَ فاضلاً تختم القرآن في ليلة واحدة، هذه الشهادة بمثابة وسام فخر واعتزاز تقلدها من حجة الله في الكون، وهي التي خلدته وميزته من بين الأصحاب، إذ أفرد له قبر بمعزل عن الأصحاب الكرام، لما يحمل من صفات المجاهدين المضحين، والعلماء العاملين بكتاب الله وسنة الرسول وهدي الأئمة الهداة من بعده، الذين هم بمثابة سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى.