حجم النص
بقلم:مهدي الدهش غالباً ما ينظر الناس إلى العقل نظرتهم إلى الإرادة و العاطفة بحسابه شيئاً مادياً محسوساً وقابلاً للقياس. وعلى هذا فهم يصفون فلان من الناس بأنه ذو عقل كبير وفلان آخر بأن عقله صغير وفلان الثالث بأن عقله أكبر أو أصغر مِن عقل فلان الرابع وهكذا... والصواب إن ثمة عمليات توصف بأنها (عقلية) فهناك مثلاً التفكير والحُكم والمُحاكمة والإدراك والتخيّل والانتباه وسواها من العمليات.. وجميع تلك العمليات هي أفعال عقلية أي إنها تتصف بالعقل. وإذن فليس ثمة عقل قائم بذاته، كما إنه ليس هناك إرادة مستقلة أو عاطفة مُحددة وإنما هناك أفعال عقلية وأفعال عاطفية وأفعال إرادية. فقد يكون الفعل عقلياً وعاطفياً في آن واحد. كما قد يكون إرادياً وعقلياً في الوقت نفسه وهكذا... هذا مِن جانب. ومِن جانب آخر.. إن الناس ـ ومنهم بعض العلماء ـ كثيراً ما يخلطون بين العقل و الذكاء. والحق إن التفريق بين العقل و الذكاء أمرٌ عسير، ذلك بأن الذكاء جوهر العقل والعقل ـ أو قُل بدقة أكبر ـ العمليات العقلية هي لُب الذكاء. ولو إننا أعملنا النظر في جانب مِن جوانب الذكاء لوجدناه قائماً على العمليات العقلية مِن أمثال التذكّر والإدراك و الحُكم والقدرة على الربط و الاستنباط والتحليل وغير ذلك مِن القدرات العقلية. ومن هنا كان التمييز بين الذكاء والعقل أمراً اعتبارياً وفيه شيء مِن الافتعال على الرغم مِن إنه مشروع في نظر علم النفس الحديث. العقل بين الوراثة والاكتساب.. إذا صح ما قدمنا لنطرح السؤال التالي: هل العقل مَوروث أم مُكتَسَب ؟ إن هذا التساؤل قد أشغل ذهن الفلاسفة والعلماء والمفكرين منذ أمدٍ طويل، وهو الآن يشغل بال علماء النفس الذين يتساءلون: هل الذكاء موروث أو مُكتَسَب ؟ وإذا كان المقام لا يتسع للخوض في الحديث الموسّع عن وراثة الذكاء واكتسابه فإنه يتسع على وجه التوكيد للقول بأن الذكاء بوصفه قدرات كامنة أمر موروث، أما بوصفه قدرات فعالة نشطة فأنه أمر مُكتسَب مِن الاحتكاك بالبيئة والمُحيط والتعامل معهما والحياة الثرة الغنية فيهما. ومعنى هذا إن الإنسان يرث ـ فيما يرث ـ وبشكل فيزيولوجي واجتماعي إمكانات وقدرات كامنة لا بد من أجل ظهورها وتفتحها وتحقيقها مِن الاحتكاك بالمحيط وما في المحيط مِن مؤثرات وحوافز ومُستظهرات. ثم إن هذه الإمكانيات الكامنة الموروثة ليست ثابتة ولا ساكنة أو مستقرة بل هي ديناميكية ومتحرّكة ومتنامية، ويتوقف نموها على البيئة وغناها المعنوي والمادي، فإذا توفر للإنسان دراسة جيدة ومحيط موضوعي ظهرت قابليته العقلية على أحسن وجه ونما ذكاؤه وتقدّم والعكس بالعكس. ومن هنا كانت أهمية التربية الناضجة وفائدة المحيط الغني بعلمه وتحدياته وقدرته على تفتيح القابليات وتنمية المواهب وتشجيع الكفاءات ضروري وحتمي في إضاءة تلك المساحة الذهبية عند الإنسان (أي الذكاء العقلي). والجدير بالذكر إن ذلك التفتح وتلك التنمية وذلك التشجيع يجب أن يتم في سن مُبكرة وبشكل واع ومُنظّم وضمن أطور موضوعية يحدوها الوازع العلمي لكي تُعطي المردود الحسن وبإيجابية عالية. تربية العقل وتنمية الذكاء.. وكنتيجة لما قدمنا كله إن الذكاء يُربّى وإن العقل يُنمّى وإن القدرات تفتح والقابليات تشجع على الظهور و النمو، وإن واجب المؤسسات التربوية كالبيت والمدرسة والأندية الثقافية والرياضية وغيرها أن تعمل على ذلك بشكل واعي وتبذل الجهد من خلال الإصرار الدءوب على تحقيق أعلى النتائج وأحسنها دوماً. ويبقى السؤال البسيط في مفهومه والكبير في معناه إلا وهو: كيف نربي العقل ؟ وكيف ننمي الذكاء ؟ عند أطفالنا ومن يعهد إلينا بتربيتهم، وكيف نحن أنفسنا نقوم بذلك ؟ وقبل الإجابة عَن هذه الأسئلة أود أن أنطلق أولاً مِن منطلق التأكيد على وجوب الإيمان بإمكانية هذه التنمية... وإن أي فلسفة تربوية تعتقد بأن الإنسان يولد بذكاء محدود وعقل ثابت فلسفة جديرة بأن تفشل في تنمية الذكاء و تربية العقل. ثانياً التأكيد على إن تنمية العقل وزيادة الذكاء يجب أن تبدأ منذ بواكير الطفولة بل ومنذ لحظة الولادة وأن تستمر. إن هاتين الحقيقتين مؤكدتين، وعلى كل مُرب ـ أباً أو أماً.. معلماً أو مرشداً ـ أن يؤمن بذلك إيماناً قوياً لأنهما حقيقتان علميتان. ثم أحب التأكيد على إن تربية العقل وتنمية الذكاء تقومان على أساس مِن تشجيع المُتَعلّم على أن يَتَعلّم بنفسه ولنفسه مُستعيناً بكل الوسائل التي قد تتوفّر للمُتَعلّم مثل الكتاب و الصُحُف و المجلات ووسائل التكنولوجية الحديثة في الاتصالات و الميديا والشبكة العنكبوتيه (الانترنت) ومواقع التواصل الاجتماعي والمتاحف ودور المسرح والسينما و النوادي الثقافية وغيرها مِن الوسائل. وختاماً للحديث أنوه بنقطة واحدة ومهمة هي أن المدرسة ليست إلا مكاناً واحداً مِن أمكنة التعليم، الذي يمكن بل ويجب أن يتم في البيت و الشارع و المعمل و المزرعة ومحل العبادة والنادي والملعب وغيرها مِن أمكنة الوجود والتواجد في الحياة المحيطة بنا، فلا نتذرّع بأن التعلّم يتم فقط ضمن نطاق التعليم الصفي، وبالتالي نُضيّع على أبناءنا فرص التعليم المُتاحة ضمن جوانب الحياة المًتعددة.
أقرأ ايضاً
- الآن وقد وقفنا على حدود الوطن !!
- الآثار المترتبة على العنف الاسري
- الضرائب على العقارات ستزيد الركود وتبق الخلل في الاقتصاد