حجم النص
بقلم: أ.د. وليد سعيد البياتي موجز لدراسة تحليلة موضوعية مدخل: لا ريب ان العراق ومنذ عقود طويلة يعيش أزمات متعددة، فلا تكاد تنتهي حالة سلبية إلا وتظهر خلفها عشرات الحالات مما شكل على الدوام تيارات متكررة من التشنج السياسي المحلي والدولي على السواء، بالتأكيد أن أزمة الحكم ليست خاصة بالعراق فقط وإنما يمكن إيجادها في كل مكان حتى في تلك الدول التي تبدو ظاهرياً وكأنها خارج عالم الأزمات. إلا أن النسيج السياسي في العراق وإستمرار تفشي المواقف السلبية أدى إلى أن تزدهر الازمات فيه، وتتفاقم، حيث أن غالبيتها أزمات مفتعلة نتيجة لصراعات مصطنعة الغاية الأساس منها إشغال الامة وبعض الأطراف عن حقيقة ما يجري في كواليس الصراعات البينية في لعبة كراسي السلطة. فأين تكمن االعلة؟ ففي كل قضية سياسية أو قانونية أو تاريخية هناك أسباب وقواعد، للصراع، وهناك بدايات وغايات، كما ان هناك طواقم من الاعلاميين ممن يبرر لهؤلاء الافعال السلبية ويقدمها كمواقف بطولية، وفي الكثير من الاحيان وحين يكون هناك تأثيراً للنزعة الدينية نجد عدد كبير من مدعي التدين يناصرون هؤلاء ويضعون تبريراً شرعياً لمواقفهم حتى المخجلة منها. في هذا التحليل الموضوعي نحاول تقديم تصور عقلاني عن الازمات في العراق وخاصة بعد سقوط صنم آخر، لنكشف ان سقوط الاصنام لا يعني بالضرورة نهاية الوثنية السياسية، فالاعتقاد السائد أن الازمات تقع بسبب الصراع على كراسي السلطة لايمثل إلا جانب بسيط من حقيقة الازمة، وأما الجانب الاكثر تأثيراً فو أزمة الرجال أنفسهم، لان الكراسي باقية ولكن الذي يتغير هو تلك الوجود التي تجلس عليها طمعاً في البقاء أطول مرحلة زمنية في حركة التاريخ. قواعد الأزمة: صارت الأزمات بعد الحرب العالمية الثانية علماً مستقلاً، بل أن هناك قواعد ونصوص وآليات لصناعة الازمات وتحريكها والبحث عن تأثيراتها، إذ ان الصراعات السياسية لا تسير بخطوط متوازية لكنها تتقاطع هنا وهناك وفق حسابات رياضية معقدة. 1- الحاجة الى صناعة أزمة: هناك على الدوام ظروف سياسية تتطلب إشغال الطرف الاخر بقضايا جانبية قد تكون في الاغلب لا علاقة لها بالمحور الاساسي للقضية محل الصراع ولكن على الاقل تقترب منها أو تدور حولها. 2- تركيبة الازمة: ليس بالضرورة ان تكون الامة بالاساس ذات موضوع سياسي، فقد تكون إجتماعية أو إقتصادية أو دينية يمكن الباسها منظور سياسي في أي وقت. 3- شخوص الازمة: صناعة الازمة أشبه بكتابة سيناريو لفيلم روائي، وهي تحتاج لشخوص وديكورات وظروف أشبه بالطبيعية لتتحرك فيها العناصر بشكل يمكن أن يكون واقعياً يعض الشيء. 4- مسارات الازمة: تتبع الازمات خطوط قصيرة تؤدي الى مسارات أخرى فكلما تعددت الخطوط والمسارات وتزايدت التشابكات كان تأثير الازمة أقوى. 5- غايات الازمة: تعتمد الغايات على طبيعة صناعة الازمة والمشاركون فيها، فهناك غايات آنية وغايات متوسطة وغايات نهائية، وكلما كان صناع الازمات من ذوي الخبرة السياسية كلما تعددت الغايات وتطورت بتطور مراحل الازمة. الثابت والمتغير في المفهوم السياسي: من منظور علم السياسية، فان الأزمات ككل القضايا السياسية تبقى في حدود الثابت والمتغير، فالمناصب السياسية تبقى على الدوام قيمة ثابتة فهناك دائما المراكز الاولى والثاني والثالثة في تسلسل الهرم السياسي الذي يشابه تسلسل الهرم الوظيفي، فالمقاعد أو الكراسي تبقى عناصر ثابتة، وأما المتغيرات فتكون على الاغلب في الوجوه أو الشخوص التي تحتل هذه المواقع، ونحن لا نعتبر ان ظروفاً عشوائية يمكن أن توصل شخص أو مجموعة من الاشخاص الى سدة الحكم، ولكن هناك دائماً ظروف معينة سلبية أو إيجابية تعيد ترتيب تسلسل الاحداث لمساعدة هذا أو ذاك على الوصول. ولما كانت المتغيرات تقع في الاشخاص أنفسهم وهذه تتبع بالاخص التركيبة النفسية والذهنية للمجتمع، كما تخضع لمستويات الوعي الجمعي العام. فاللحث يجب ان يتركز حول الاشخاص والشروط، فتحول مجتمع مدني في السلطة إلى مجتمع عسكري يقوده رجال الجيش لا يأتي من فراغ، وإنما لتنامي ظروف موضوعية غيرت مسارات الوعي في البيئة الاجتماعية سلباً أو ايجاباً. ففي وقت ما كانت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي يقودها عددا من الاكاديميين والخبراء الذين نهظوا بالاتجاهاتت العلمية والمعرفية في الجامعات العراقية حتى كانت جامعة بغداد من الجامعات الشهيرة في الشرق الاوسط، نرى في عهد صدام أن شخصاً شبه امي مثل سمير الشيخلي يتبوء هذا المنصب العلمي الكبير في حضور عدد غير محدود من العلماء والخبراء العراقيين في كل الجامعات آنذاك، لتبدأ بعد ذلك مراحل إنهيار هذه الوزارة المهمة والمتعلق عملها اصلاً بالتعليم العالي والثقافة الرصينة والمتقدمة وصولا حتى الوقت المعاصر وبما يجري عليها الآن. قدمت هذا المثال لان إنهيار الثقافة العراقية سيعني إنهيار مستويات الوعي وبالتالي إضمحلال وتدني القيم العليا التي أنشأ التعليم العالي من أجلها ألا وهي تطور البحوث في الجامعات لما يخدم مصلحة البلاد ككل في كل التخصصات والاتجاهات المعرفية. إذن الازمة هنا تكمن في الشخوص أنفسهم، وفي طبيعة النظام السياسي الذي يسمح بوصول هذه الشخصيات السلبية لتحتل مواقع متقدمة في الدولة فقط لانها تناصر رئيس السلطة في تلك المرحلة أو ما نراه الان في المرحلة المعاصرة حيث لا يحتل احدهم منصباً من الرجال والنساء إلا إذا كان ضمن مخطط السلطة نفسها بعيداً عن تحقيق مطامح الشعب أو الغايات العليا لهذا المنصب أو ذاك. النزعة نحو السلطة: لايمكن إنكار تلك النزعة النفسية نحو السلطة أو العلو أو تبوء المناصب الرفيعة، لأن ذلك جزء من تركيبة النفس البشرية، ولكن هل هذه النزعة محمودة أم لا؟ يقول الحق سبحانه عن لسان نبيه سليمان بن داود عليهما السلام: " قال ربي إغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي إنك أنت الوهاب " ص: 35. قد يبدو لنا طلب سليمان (ع) من ربه هذا الملك مع إشتراط ان لا يكون مثله لغيره في غاية الإجحاف بحق الاخرين في الملك، وقد يبدو للبعض كظاهرة نفسية وفكرية فيها الكثير من نزعة الأنا. ولعل من هذه الفكرة اخذ ابو فراس قوله: " إذا مت ظمئآنا فلا نزل القطرُ ". غير ان هناك تباين كبير بين موقف سليمان (ع) وموقف أبو فراس الحمداني، فالنبي سليمان (ع) كان يعي ان الملك والسلطة سيرافقهما نزعة البغي والعدوان، وهو يعلم في نفسه ومما علمه الله جل شأنه له أنه ليس من أهل البغي، وأن الملك بالنسبة له وسيلة في سبيل تحقيق غايات إيجابية في خدمة الإنسانية ككل. بينما نجد ان نزعة ابي فراس آنية وتتعلق بموقفه الاجتماعي ونظرته تجاه الاخرين. ولما كنا نتحدث عن أزمة السلطة فان الذي حدث ويحدث في العراق في كل العصور هي في الواقع أزمة إختيار الأشخاص وعلاقتهم بكراسي الحكم، فثمة مستويات عالية من النزعة نحو التسلط والتجبر على الاخرين، وهناك أساليب عديدة نعزز تنامي نزعة التسلط تظهر كالتالي: أولا: الاسلوب السياسي: باستغلال المنصب السياسي نحو الظهور في المجتمع والتسلط عليه بقوة المنصب وبما يخدم صاحب السلطة فتكون لديه الفرصة لجمع الثروات على حساب فقر المجتمع. فيحدث تباين كبير في القوة والثرة والسطوة بين رجال السلطة وغالبية المجتمع. ثانياً: الاسلوب الاقتصادي: السلطة تفتح عادة أبواب التلاعب بالاقتصاد فبصبح اقتصاد البلد جزء من ثروات اصحاب السلطة، بل ان ثرواتهم تعتمد على نهب إقتصاد البلد، فيصبح البنك المركزي مثلاً مجرد خزانة للحاكم ومن يدور في فلكه. ثالثاً: الاسلوب الديني: وهو من الاساليب الخطيرة لتأثيره المباشر في نفسية وذهنية المجتمع ككل، فإستغلال الموقف الديني في تفسير سياسات السلطة سيؤدي إلى تقديم قوالب ثابتة لايمكن تجاوزها في العلاقات الانسانية والاجتماعية، فكل المتصدين للموقف الديني يجهلون حدود العلاقة بين الديني والسياسي وهذا مما يضعف الاتجاهين في ذات الوقت. ويبقى التساؤل من الاحق بالكراسي؟ السياسيون؟ الاقتصاديون؟ رجال الدين؟ العلماء والاكاديميين؟ غير ان الاجابات لا تكمن في هذه الطائفة أو تلك الفئة!! لا تكمن في خبرة السياسي والاقتصادي والاجتماعي وغيرهم، الاجابة تكمن في قيمة الاخلاص والصدق. فقد يكن السياسي خبيراً ولكن خبرته وحدها لا تكفي بل يجب ان يكون مخلصا في عمله، وهذا لا يعني ان نأتي بالانسان الطيب البسيط لمجرد انه طيب، المهم ان يكون خبيراُ ومخلصا في ذات الوقت، من هنا قلنا باهمية حكومة التكنوقراط على شرط وضع الجميع تحت المراقبة التدقيق. فالزمة ليست في كراسي السلطة ولكن الازمة في من يحتل موقعه هناك.
أقرأ ايضاً
- الانتخابات الأمريكية البورصة الدولية التي تنتظر حبرها الاعظم
- التكتيكات الإيرانيّة تُربِك منظومة الدفاعات الصهيو-أميركيّة
- الإجازات القرآنية ثقافة أم إلزام؟