حجم النص
بقلم :حسين الخشيمي
تمثل تلاوة القرآن الكريم جزءاً مهماً من واقع مجالس العزاء والتأبين، والتي نعبر عنها بـ (الفواتح)، حيث تعد تلاوة القرآن دعامة أساسية، فلا يخلو مجلس (الفاتحة) من تلاوة آيات الذكر الحكيم ، إما من خلال قارئ يتلوه على مسامع المعزين، او عبر اجهزة مكبرات الصوت، وفي كلتا الحالتين، المشهود والملحوظ هو أن صوت التلاوة يصدح في الأرجاء، فيما الموجودون في شغل عن القرآن الكريم، فمنهم من يسأل عن صحة وأحوال هذا، ومن يسأل عن أخبار ذاك...! وهذا بمعنى أننا، ومن حيث لا نعلم قطعاً، لا نراعي حرمة القرآن الكريم، ولا نلتزم بآداب الاستماع والإنصات،التي تدعونا اليها آيات القرآن الكريم والاحاديث الشريفة، فتعلو الاصوات في محضر كلام الله ، فنغفل عن مراعاة حرمة المخاطِب، في الوقت الذي نعدّ نحن ان الاستماع الى الخطيب، او الى المتكلم في المجالس والمنتديات اذا ما اراد إلقاء كلمة معينة امراً بالغ الاهمية، نعبر فيه عن مدى احترامنا للخطيب او المتكلم، فنراعي قضية احترامه من خلال الاستماع الى كلامه، ولكننا نتساهل في مراعاة كلام رب العزة.
والآية القرآنية صريحة في هذا المجال، حيث يأمرنا ربنا بقوله: "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (الاعراف/ 204). في هذه الآية الكريمة تأكيد على امر الاستماع الى تلاوة القرآن الكريم، وايضاً الى الانصات، وهو بمعنى السكوت وعدم الحديث والامتناع عنه عند سماع تلاوة القرآن الكريم، كما ذكر المفسرون وعلماء اللغة في بيان معنى (الانصات) و (الاستماع).
لكن لماذا هذا الأمر الشديد والمباشر للإنصات وليس الاستماع فقط..؟
أحد علماء الدين يقدم مثالاً رائعاً وقريباً الى واقعنا، إذ يفترض أن احدنا جالس أمام شخصية كبيرة كأن يكون مسؤولاً حكومياً او عالم دين كبيراً، وهو يتكلم في مجلس خاص، ثم يشرد المستمع بذهنه هنا وهناك، فهل يكون هذا من آداب المجالس..؟ بل من المؤكد غالباً، أن الكثير ممن يكونون في مجلس من هذا النوع، يكونون منصتين ومستمعين بكل وجودهم وكيانهم، لاسباب عديدة، ربما منها المصلحة المادية مع المسؤول الحكومي، او المعنوية مع عالم الدين، او حتى ربما يكون الخوف والحذر اذا كان مسؤولاً أمنياً..
والسبب الآخر الذي يمكن أن نستفيده؛ هو دعوة البارئ عزّوجل الينا لأن نغترف من هذا المعين الزلال الذي لا ينضب، وينقل لنا التاريخ ان أحدهم جاء الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسأله عن القرآن، فتلا عليه النبي صلى الله عليه وآله بعض آيات القرآن الكريم، فصعق وشد على فم رسول الله وقال له: "أناشدك الله والرحم إلا سكتّ". و رجع الى قومه يقول لهم: "انه سحر يؤثر"..! ذلك لان للقرآن الكريم سحره بأثره العجيب على نفسه، فهو يخاطب وجدان الانسان، ومشاعره، لذلك كان سبباً في خروج الكثيرين من نفق الضلالة والتيه، الى رحاب الهداية والايمان والصلاح، وباعتراف الجميع، لاسيما أولئك الذين حاربوا القرآن الكريم، حين نزوله بانه كلامٌ يسحر القلوب، وتستهويه الروح وتسمو بتلاوته.
لذلك فإن قضية مراعاة الاستماع والانصات لتلاوة القرآن الكريم مرتبطة بصلاح وهداية الانسان، وتذكره بالآخرة والعقاب والثواب. والله تعالى يريد أن نعي ونفهم أن الكلام الصادر من القرآن الكريم ، ليس كأي كلام يتلى ويسمعه الناس، مهما كان، انه كلام الله تعالى، فيه كل ما يحتاجه الانسان في حياته، من الرحمة والبركة والخير، فإذا كانت الكلمات التي تخرج من انسان مخلوق مثلنا، ونتوجه إليه لأهميته بما هو عليه من مقام ومنزلة، لن تبقى ولن تدوم، إنما هي مقيدة بظروف زمانية ومكانية، بينما كلام الله باق ما بقي الدهر. لذا حريٌّ بنا، ونحن نحضر مجالس الفاتحة والتأبين، حيث أجواء الحزن والأسى على فقد الأحبة، أن نهيئ القلب والسمع والفؤاد، لأن يكون ليّناً خصباً لتلقي كلام السماء، فربما يكون التأثير اكبر و أجلى، وان نكون اكثر وعياً لمثل هذه الحالات، ونتخذ من هذه المجالس فرصة جديدة للهداية تكون على أثر آيات القرآن الكريم، وايضاً من خلالها نعبر عن مدى إجلالنا الكبير لصاحب الكلام، وهو الخالق جل وعلا.