حجم النص
ستة من الشبان من بيشمركة الاتحاد الوطني الكردستاني بالكاد يتحدثون اللغة العربية يقتحمون حيا عربيا في مدينة الموصل في اخطر عملية لاعتقال احد ابرز رموز النظام السابق الذي حكم العراق بالحديد والنار لمدة خمسة وثلاثين عاما. مغامرة محفوفة بالمخاطر بكل المقاييس فبمجرد فتح احد افراد العملية الاقتحامية فمه كان الامر كفيلا بكشف هويته واثارة الشكوك من حوله وعن اسباب وجود هؤلاء البيشمركة في تلك المنطقة.. لكن العملية مضت بسلام وانتهت بإلقاء القبض على الشخص الثاني في سلم القيادة العراقية المختفية عن الانظار منذ انهيار النظام السابق.
في هذا التحقيق تلتقي وكالات اعلامية باثنين من قادة العملية الجريئة (اشرافا وتنفيذا) وهما يرويان التفاصيل الدقيقة للساعات الحاسمة التي انتهت بتسليم طه ياسين الجزراوي نائب الرئيس العراقي السابق الى القوات الاميركية وهو احد اخطر المطلوبين لديها على قائمة الـ(55) مسؤول من النظام السابق.
بدأ العضو القيادي البارز في الاتحاد الوطني الكردستاني كوسرت رسول علي الذي اشرف على العملية منذ بدايتها حديثه بالقول: قبل شهرين تقريبا وردتنا معلومات من مصادرنا الحزبية داخل الموصل تشير الى وجود طه الجزراوي وهو احد الرموز الفاسدة للنظام السابق ومسؤول هيئة شؤون الشمال لفترة والقائد العام لقوات الجيش الشعبي وعدد آخر من مسؤولي النظام معه في احدى المزارع الواقعة على الطريق الذي يربط مدينتي الموصل ودهوك. فارسلنا مفرزة من بيشمركتنا لتقصي حقيقة هذه المعلومات والوقوف على صدقية الخبر المنقول الينا. لكن المفرزة عندما وصلت الى هناك وجدت ان الجزراوي ترك المزرعة قبل يوم واحد فقط من وصولها الى هناك.
ووجد افراد مفرزتنا في المزرعة احد افراد حماية الجزراوي يدعى (معتصم) فاعتقلوه وساقوه الى السليمانية.. اجرينا مع هذا الشخص في السليمانية سلسلة من التحقيقات المكثفة. وبعد شهر من اعتقاله اعترف معتصم بان هناك شخصا كرديا يدعى محمد رشيد الداودي هو رئيس طاقم حماية الجزراوي يعيش في الموصل، فاذا توصلتم اليه بامكانه ان يدلكم على مكان وجود الجزراوي.
* الأميركيون لم يهتموا
* وتابع قائلا نحن بدورنا اخبرنا الاميركيين عن هذه المعلومات التي وصلتنا قبل اسبوع من اعتقال الداودي فلم نجد منهم اهتماما او جدية لمتابعة الخبر فاضطررنا الى القيام بالعملية بانفسنا.. وكان الهدف من ابلاغ الاميركيين بالمعلومات التي توفرت لدينا هو لان مدينة الموصل تقع تحت سيطرتهم وهي بدورها خارجة عن مناطق نفوذنا، لكن الاميركيين اكتفوا بمراقبة العملية عن كثب، وكان بامكاننا اعتقال الجزراوي من دون علم الاميركيين.
شكلنا مفرزة من ستة افراد من بيشمركتنا وامرتهم بالتوجه الى الموصل لتعقب هذه المعلومات واستجلاء حقيقة الخبر، وابقينا امر العملية في نطاق سري جدا لضمان نجاحها من دون اثارة اية مشاكل. وكنت على اتصال دائم بالمفرزة بواسطة جهاز (الثريا) الذي وزعنا خمسة اجهزة منه على افراد المجموعة، وفعلا استطاع الشبان اعتقال هذا المسؤول الكبير بظرف خمس ساعات .وعندما ابلغوني بنجاح العملية طلبت من الاميركيين استلامه فاشترطوا لذلك ان يكون التسليم في احدى مقراتنا الحزبية داخل الموصل وهكذا سلمناه اليهم باعتباره احد المطلوبين الـ(55) في القائمة الاميركية.
وسألته عن تصوراته لاسباب تركز وجود اكثرية مسؤولي النظام السابق وخاصة من القيادات العليا في المناطق التي تعتبر الى حد ما هادئة من الناحية الامنية مثل الموصل وتكريت وبعقوبة قياسا الى المدن العراقية الاخرى: رد قائلا: اعتقد بان الهدوء الذي تتحدث عنه في هذه المناطق يعود الى سبب وجود هؤلاء فعلا في مخابئ بهذه المناطق، فهم لا يريدون اثارة القلائل الامنية في هذه المناطق التي يلجأون اليها وينأون بها عن عملياتهم التخريبية لكي لا يثيروا القوات الاميركية فيها وبالتالي تتجه انظار قواتهم الى هناك وما يستتبع ذلك من تكثيف عمليات ملاحقتهم، فهم يبقون هذه المناطق هادئة حتى يتمكنوا من الاختفاء فيها بسلام.
واعرب العضو القيادي في الاتحاد الوطني عن اعتقاده بوجود النائب الآخر لصدام عزت الدوري في المثلث الممتد بين مدن بعقوبة وكركوك وتكريت، فيما حدد اماكن تنقلات الرئيس العراقي المعزول صدام حسين على الخط الذي يربط الموصل ببغداد العاصمة.
ويكمل قائد العملية سرباز حمد امين قصة اعتقال الجزراوي بالقول: عندما ذهبنا الى تلك المزرعة بمنطقة الرشيدية الواقعة بين الموصل ودهوك وجدنا الجزراوي قد غادرها، ووجدنا هناك حقيبة مليئة باوراق خاصة تعود الى الجزراوي وابنائه وابناء اخيه، كم وجدنا ايضا شخصا يدعى معتصم وطفلا يبلغ التاسعة من عمره بدأ بالبكاء فعرفنا بانه احد ابناء الجزراوي.. قيدنا معتصم واخذناه معنا الى السليمانية حيث خضع هناك لتحقيقات مكثفة، وبعد مرور شهر تقريبا بدأ يتجاوب معنا ودلنا على محمد رشيد الداودي مسؤول طاقم حماية الجزراوي وهو عديله ومحل ثقته واعطانا تفاصيل كاملة عن موقع منزله ورقم سيارته فعينا عددا من بيشمركتنا لمراقبة البيت الذي كان يقع في حي الوحدة، لاننا كنا نعرف بان اعتقال الداودي يعني الاقتراب من نجاح عملية اعتقال الجزراوي.
في احد الايام ابلغنا المخبر بوجود الداودي في منزله الذي كان قد تركه لشقيقه عندما كان في بغداد طوال السنوات الماضية لكنه عاد اليها بعد سقوط النظام ليكون بقرب سيده. في حدود الساعة السادسة مساء جاء الداودي بسيارة من نوع ماليبو بيضاء قاصدا منزله فاعتقلناه واخذناه الى احد البيوت الذي عيناه كمخبأ لهذا الغرض.
بعد عدة ساعات من التحقيق معه وممارسة الضغط عليه اغريناه بالنجاة باعتباره ليس مطلوبا ضمن قائمة الـ(55) الاميركية وقلنا له بان هدفنا هو الجزراوي بذاته ولا علاقة لنا بك، فعاند في البداية لكنه استسلم للامر الواقع وبدأ يتجاوب معنا وابدى استعداده لمرافقتنا وليكون دليلنا الى البيت الذي يختبئ فيه الجزراوي. في حدود التاسعة مساء. وجدنا قرب البيت الذي دلنا عليه الداودي عنصرا اخر من طاقم حماية الجزراوي فاعتقلناه وقيدناه، لكنه سرعان ما انهار واعترف بوجود الجزاروي داخل البيت، وبعد ان تأكدنا من ذلك اتصلت هاتفيا بكوسرت رسول فطلب مني التريث قليلا لحين التأكد التام من وجوده داخل المنزل ثم اقتحامه واوصانا بتكثيف المراقبة حول البيت. فتجولنا حول البيت ووجدنا بابا خلفيا فعينا حارسين هناك ووزعنا بقية الافراد وانا منهم بالقرب من البيت، وكان عددنا الفعلي هو ستة اربعة من البيشمركة وانا وسائق آخر.
كان العقيد محمد الداودي ابلغنا بعدم وجود اية حماية او حراسة مع الجزراوي وحين تأكدنا من ذلك بدأنا عملية الاقتحام في الساعة 20/11 ليلا. طرقنا الباب فسألونا من الداخل (من الطارق) فاجابهم عنصر الحماية الذي اعتقلناه امام الدار الذي كان مقيد اليدين ففتحوا لنا الباب الخارجي واصبحنا داخل باحة المنزل ووجدنا باب المدخل من الخشب الصاج فكسرناه ودخلنا الدار وكان الجزراوي وحده مع عائلته فصعق عندما رآنا واصيب بالذهول، هرب من امامنا باتجاه المطبخ لا يلوي على شيء. لكنه عندما اراد العودة الى المدخل لاستجلاء اسباب الطرقات التي سمعها واجهه اثنان من بيشمركتنا وقيدوه، فيما قام الآخران بسوق افراد عائلته الى احدى الغرف حتى لا يسمع الجيران صراخهم اذا ما صرخوا طالبين النجدة.
كان الجزراوي يرتدي دشداشة بيضاء وقد ابيض شعره الذي كان يصبغه في سنوات حكمه.
سألته وماذا عن الجيران ألم يلاحظ احد حركاتكم او يسمعوا صوت كسركم لباب المدخل؟ اجاب قائد العملية: البيت كان يقع في منطقة تعج بكبار ضباط النظام السابق وكان هؤلاء مسلحين بالبنادق والرشاشات، ونحن اساسا شكلنا مفرزتنا من هذا العدد القليل من البيشمركة كي لا نثير جلبة او شكوكا من حولنا، وقمنا بالعملية بحلول منتصف الليل وكان هدفنا الاساسي هو اعتقال الجزراوي واخراجه بأقصى السرعة من المنطقة ونقله الى المنزل الذي حددناه للعملية. لكننا عندما كنا داخل باحة الدار وجدنا امامنا في الشارع العام شخصين يترصداننا، ولم نكن نعرف اسباب وجودهما هناك او هويتهما. هل كانوا من طاقم حماية الجزراوي او انهم مثلنا جاءوا يبحثون عنه، المهم عندما كانوا يقتربون منا نتخذ نحن احتياطاتنا فلما رأوا بنادقنا مصوبة تجاههم لاذوا بالفرار، وحتى الآن لم نتمكن من معرفة هويتيهما. اما عن الجيران فلم يلحظوا شيئا تلك الليلة، لكن بعضهم اكد عند لقائه بفضائية (كوردسات) التي ارسلت فريقا لتصوير المكان والالتقاء بالجيران، قال بعضهم انهم لو عرفوا بوجودنا هناك لاعتقال الجزراوي لكانوا سيقتلوننا لان في عرفهم لا يجوز تسليم الدخيل الى العرب الى الغير.
ويستطرد قائد العملية سرباز في حديثه قائلا: المهم اخرجناه من البيت واركبناه السيارة التي كانت واقفة بالباب، ووضعناه بين اثنين من بيشمركتنا في الخلف وقدت انا السيارة باتجاه البيت الذي حددناه لذلك.
وسألته ألم يقل شيئا عندما اخذتموه الى السيارة؟ قال: لاحظت انه يريد التصرف كشخص عادي.. لم يقاوم ولم ينبس بأي كلمة غير قوله (أخ خيانة) وكان يقصد خيانة محمد الداودي له، فانا اعتقد بانه شك في خيانة الداودي له. المهم كما قلت جلس صامتا واراد ان يوهمنا بأن الامر عادي وانه هو ايضا شخص عادي يساق الى تحقيق او استجواب قصير ثم لا يثبت عليه شيء فيترك لحال سبيله.
* المنزل السري
* نقلناه الى المنزل السري وهناك اردت محادثته لوجه التاريخ فقلت له: انا لحد الآن غير مصدق بانك طه الجزراوي نائب صدام وانني ألقيت القبض عليك.. واستغرب لحالكم يا مسؤولو النظام السابق فانتم تمتلكون سجلا حافلا بالجرائم واراقة الدماء، لم اكن اتوقع ابدا ان اراكم بهذا الجبن والذل لا تقاومون وسرعان ما تستسلمون بمثل هذا الشكل المهين والمذل بعد ان كنتم ترعبون الناس. فقال الجزراوي: انا بدوري ايضا لم لكن اتوقع ان تعتقلوني هكذا ببساطة.
وبعد ان عرف اننا من بيشمركة الاتحاد الوطني الكردستاني سألته: هل تعترف الآن بكونك كرديا؟ اجابني: بالطبع انا كردي قلت له: اذن لماذا انكرت قوميتك كل هذه السنوات؟ فقال: انا لم انكر قوميتي ابدا. قلت له: اذن لماذا لا تستطيع التحدث معي باللغة الكردية؟ اجاب: منذ العاشرة من عمري انتقلت وسط العرب، قبل ذلك كنت اتحدث بالكردية، لكنني نسيت التحدث بعد ذلك.. قلت له: انت الآن بيد العدالة والتاريخ والشعب العراقي سوف يحاسبانك اذا ما كنت مذنبا وسيعاقبانك على جرائمك. قال: انا كنت موظفا في الحكومة.
جرت العملية بعدد قليل جدا من البيشمركة، وهذا اثار استغرابنا لذا سألنا قائد العملية فيما اذا حسبوا لحجم المخاطرة والمغامرة التي يقدمون عليها كأن يواجهوا حماية الجزراوي او يخرج الجيران لنصرته خاصة ان البيت كان يقع في حي الضباط ويعج بموالين لنظام صدام، قال سرباز: اساسا نحن لم نرد اثارة الجلبة، ثم اننا ركزنا مراقبتنا على محيط الدار وكنا قد حصلنا على معلومات مؤكدة من محمد الداودي بعدم وجود اي حراس او حماية مع الجزراوي، صحيح ان هؤلاء عندما كانوا في السلطة يحشدون (500) من عناصرهم الامنية لمداهمة حي من الاحياء لاعتقال فرد واحد او اثنين من معارضي حكمهم، لكننا كنا نعرف طبيعة هؤلاء وجبنهم وعرفنا بانهم لا يستحقون تحشيد قوة من (50) بيشمركة لاعتقال واحد منهم، فهؤلاء سرعان ما يستسلمون وينهارون جراء جرائمهم الوحشية التي ارتكبوها بحقنا. ثم لا اعتقد بان هناك احد من اقارب الجزراوي على استعداد للتضحية بنفسه من اجله، لان الجزراوي اساسا كان خشنا معهم ويهملهم عندما كان في السلطة.
وقال قائد العملية انه بعد ربع ساعة من اعتقال الجزراوي اتصل بالعضو القيادي كوسرت الذي كان يتابع العملية اولا باول وابلغه بوقوع (ازمر) وهو الاسم السري لطه الجزراوي قيد الاعتقال، فهنأهم العضو القيادي وشكرهم على جهودهم وامرهم بسوق الجزراوي الى مقر التنظيم في الموصل وتسليمه الى الاميركيين، لكن سرباز اكد لـ«الشرق الأوسط» ان القوة الاميركية المؤلفة من اربع سيارات عندما جاءت الى المقر لم يكن احد من افرادها يعرفون من هو الشخص الذي يتسلمونه، وعندما رآهم الجزراوي سحب نفسا عميقا ثم اطرق برأسه.
* الوثائق
* وتذكر سرباز انه عندما كان في المنزل السري سأل احد البيشمركة الجزراوي عن جرائم الانفال والقصف الكيماوي لمدينة حلبجة، فكان الجزراوي يجيب متسائلا: هل حدثت هذه الامور حقيقة.. فلما قال له احد البيشمركة: كيف تنكر عدم معرفتك وانت نائب رئيس الجمهورية؟ رد قائلا: صدقوني لم اكن اعرف بهذه الامور.
سألنا قائد العملية: وماذا عن الوثائق التي حصلتم عليها اثناء عملية الاقتحام؟ فقال: الحقيبة التي استولينا عليها كانت مليئة بالوثائق التي تتحدث عن اعادة تنظيم فلولهم وفيها اتصالاتهم بعناصرهم في بغداد والاماكن الاخرى لتنظيم ما يسمونه بمقاومة الاحتلال والقيام بعمليات تخريبية (اكد كوسرت رسول على وجود هذه الوثائق بحوزة الاتحاد الوطني، مؤكدا بانهم يدرسونها بعناية بالغة قبل اتخاذ اي قرار بشأنها لخطورة المعلومات الواردة فيها).
واستطرد سرباز قائلا: حسب اقوال العقيد محمد رشيد الداودي لو لم نلق القبض في تلك الليلة على طه الجزراوي لكان سيلتقي في الغد بالرئيس الهارب صدام حسين، فقد كانا متواعدين باللقاء في اليوم التالي للعملية. والداودي كان محل ثقة الجزراوي وهو كردي يثقون به ويعتمدون عليه في اتصالاتهم فجميع الكاسيتات والرسائل تنقل عن طريقه.
أقرأ ايضاً
- الألغام.. عشرات الآلاف من الضحايا وملف التطهير مازال عصيا
- "طريق الموت" يفتك بالمتنقلين بين شمال العراق ووسطه
- بالفيديو:مصور اجنبي يهدي العتبة الحسينية صورا لكربلاء التقطها عام 1969